العدد 2060 - السبت 26 أبريل 2008م الموافق 19 ربيع الثاني 1429هـ

تعرٍّ سياسيّ أم تقديس سياسيّ؟

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

حين أصدر أحد العلماء فتوى أثناء صدور قانون التأمين ضد التعطّل تحرّم على العاطلين تسلم رواتب التأمين، كان لكاتب هذه الأسطر مقال تحت عنوان «الإفتاء في الشأن العام... التأمين ضد التعطّل نموذجا»، أثرت فيه عددا من الإشكالات حول جدوى تلك الفتوى من ناحية عملية. ولم يكن المقال ردّاّ للفتوى بمعنى تخطئتها أو رفضها؛ لأن الكاتب ليس معنيا بها، باعتبار أنه يرجع في مثل هذه الشئون لأحد مراجع الدين.

هذا أولا، وثانيا: إن الآراء الفقهية ذات الطابع الفردي التي تصدر من فقهاء من غير المراجع محلها الطبيعي الحوار العلمي في الحوزة؛ لأنه لا تأثير لها عمليا باعتبار أن المكلفين يرجعون إلى مراجع الدين، وليس للفقهاء الذين ليسوا بمراجع.

والمسألة باختصار شديد، تمثل رأيا لكاتب صحافي مراقب للساحة، والمعني بهذا المقال كل علماء التيار في هذا البلد وليس هذا العالِم بالذات. الرأي يقول إنه عندما يبلغ الخلاف بين العلماء 180 درجة - كما حدث حيال التسجيل للعمل تحت قانون الجمعيات السياسية بين عالم يدعو للتسجيل وآخر يحرّم ذلك - فإن الاقتصاد في اللجوء إلى الفتاوى، والاكتفاء بالنصح ربما يكون أصلح لعموم التيار وللساحة.

وقد كان الإشكال المثار آنذاك واضحا، وهو ما جدوى تحريم تسلم العاطلين للرواتب بينما العاطل المكّلف سيرجع لمرجع التقليد الذي يتبعه من أجل براءة ذمته، بمعنى أنه ملزم بفتوى مرجع التقليد الذي يتبعه فقط في مثل هذه المسائل حين ننظر لها بطابعها الفردي... فهل يحرم على كاتبٍ ما إثارة هذا الإشكال؟ وهل إثارة هذا الإشكال تعطي صكا شرعيا للنيل من الكاتب واتهامه بتوهين العالم وتسقيطه؟ ألهذه الدرجة بلغ حرص البعض على مكانة علماء الدين؟ أم أن المسألة وقوع في مزابل السياسة، والتّلوث بمختلف أنواع القاذورات فتنعكس استهدافا للأشخاص وقمعا لأي رأي تحت دعوى توهين الفقيه والعالِم؟ وكيف تتناسب هذه الدعاوى عندما تصدر ممن لا يتركون شاردة ولا ورادة إلاّ واقتنصوها من أجل النيل من أطراف أخرى وعلماء آخرين يخالفونهم في منهج عملهم السياسي المعارض.

أحد طلبة العلوم الدينية أثار عددا من الإشكالات العلمية المهمة على مباني بعض فتاوى هذا الشيخ الجليل نفسه التي ربما تُعد في عُرف الحوزة العلمية من شواذ الفتاوى، كتحليله زواج من توفي زوجها بلا عدّة إذا ثبت يقينا بواسطة الطب أنها ليست بحامل. وطالب العلم - بحسب علمي - لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، فهل تحرم عليه تلك الإثارات المهمة التي تغني الساحة العلمية بالحوار وتحريك الفكر؟ وهل وقوع تلك الإشكالات العلمية في أيدينا يعدّ حطّا من قدر ومكانة العالِم؟

وكم مقدار ما جاء في ذلك المقال الذي «جعجع» البعض عليه، وناحوا وبكوا بكاء سياسيا طويلا، مقارنة مع ما يطرحه هؤلاء أنفسهم من نقد عنيف يصل لدرجة الاستخفاف تجاه منهج سياسي ورؤى تبنتها جمعية سياسية إسلامية وفقيه آخر؟ وما موقفهم من بعض الشخصيات الناشطة؟ إذ لم يكتفِ هذا الناشط المحترم بتقدير عدم ملاءمة منهج العمل السياسي الذي تبناه أحد العلماء للظرف السياسي الحالي، بل خطّأ هذا المنهج ووصمه بنعوت منفّرة، حتى آتى هذا النوع من النقد ثمره كما تشهد بذلك ألسنتهم، فلماذا لم يُثر أولئك النفر ما أثاروه على كاتب هذه السطور من دعاوى توهين الفقيه؟ والمصيبة حينما تصدر الاتهامات (التي في حقيقتها تهدف لقمع الرأي المخالف) ممن يتبجحون بأهمية النقد كمصحّح ومنضّج للحراك الثقافي والسياسي في المجتمع، ولكن عادة ما يقتصر طربهم لأيّ نقد بأي مستوى وأيّ أسلوب عندما يستهدف ما أسموه «منهج المسايرة» فقط.

إنها مشكلة السياسة فقط وليست الدين، بل إنها التعرّي من قيم الدين قبل الولوج في برك السياسة الآسنة، والغوص في أوحال التجاذبات مع الأطراف المخالفة.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 2060 - السبت 26 أبريل 2008م الموافق 19 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً