العدد 2056 - الثلثاء 22 أبريل 2008م الموافق 15 ربيع الثاني 1429هـ

الإدارة الأميركية... من الايديولوجيا إلى التجريبية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل بدأت إدارة الرئيس جورج بوش الجمهورية بالانتقال في السنة الأخيرة من عهدها الطويل نسبيا من مرحلة الإفراط في الايديولوجيا إلى طور من العقلانية السياسية؟ الأمور يمكن ملاحظتها من خلال المقارنة بين فترة اتسمت بالتشدد الايديولوجي الذي اعتمد سياسة ثورية انقلابية راهنت على القوة العسكرية كأداة للتغيير وبين فترة بدأت ترتسم في ملامحها العامة صورة تتسم بالواقعية السياسية.

الفارق بين الفترتين لا يحتاج إلى عناء لاكتشاف تلك المقاربة المطلوبة نظريا للمقارنة بين توجهين: الأول أفرط في إطلاق تصورات ايديولوجية والثاني يحاول توليد نوع من التجريبية في سياسة عامة تفتقد إلى منظور عملي. وفي حال تابعت الإدارة خطواتها المستحدثة إلى شوطها الأخير فمن غير المستبعد أن يلاحظ قريبا نشوء نوع من المفارقة يؤشر على وجود تحول من الايديولوجيا الانقلابية إلى براغماتية واقعية قد تؤدي إلى خلط أوراق التحالفات دفعة واحدة.

هذه المقارنة يمكن مقاربة تفصيلاتها من خلال رصد الخطوات الأميركية التي بدأت تخرج إلى العلن منذ صدور تقرير بيكر - هاملتون بشأن العراق. فالتوصيات التي نصحت الإدارة بإعادة ربط قضايا منطقة «الشرق الأوسط» ببعضها أدت إلى تجميد الحلول وإدخال الملفات الساخنة في ثلاجة تنتظر استكمال الاتصالات والتدابير بذريعة البحث عن حل شامل أو صفقة متكاملة تنهي الأزمات دفعة واحدة.

هذه الرؤية المستحدثة تفسر إلى حد كبير الأسباب التي أوقفت الضغوط الأميركية على الأقاليم العربية واتجهت نحو التعامل الإيجابي مع قوى متهمة بالتطرف. كذلك أدت هذه الرؤية إلى فتح قنوات الاتصال مع مختلف الاتجاهات تحت سقف محاولة معالجة الملفات ضمن خطة مشتركة تقرأ المشكلات بوصفها نتاج أزمة واحدة.

كل هذا الخلط في الأوراق لا يمنع وجود تصور أميركي خاص للقراءة يبدأ من سلسلة أولويات تنطلق من ملف العراق أولا. فالعراق لايزال في حسابات إدارة واشنطن يشكل جوهر الأزمات، وهذا الأمر يتعارض مع الرؤية العربية التي تضع فلسطين على رأس القائمة وترى انطلاقا من حسابات تاريخية أن المسألة الفلسطينية تشكل أساس الأزمات والبداية التي تفرعت منها مختلف الملفات الساخنة.

العراق أولا أم فلسطين تعتبر الآن نقطة تماس قابلة للتسخين بين الطرفين العربي والأميركي. فإدارة بوش التي ترى أن مشكلتها الراهنة تتركز على حل معضلة الاحتلال في العراق لا تمانع في فتح كوة في الجدار الفلسطيني ولكنها تشترط أن يكون مدخل الحل هو التفاهم على صيغة إقليمية لأزمة بلاد الرافدين. وهذه الخطوة الحذرة أو المترددة التي ظهرت حديثا في السياسة الأميركية تعتبر مهمة قياسا بالفترة الايديولوجية السابقة. ومجرد اعتراف إدارة أميركية مغرقة في تطرفها الايديولوجي بأهمية معالجة الملف الفلسطيني، حتى لو كان في الدرجة الثانية بعد العراق، لابد من رؤيته في سياق تحول بدأ يطرأ على عقل الإدارة ولو جاء متأخرا عن الميعاد.

في المقابل لم تتردد الدول العربية في التقاط هذه الإشارة اللافتة للنظر لذلك اتجه بعضها إلى اتخاذ خطوات معقولة تؤشر إلى وجود استعداد للانفتاح على الحاجة الأميركية في شأن ملف العراق.

تبادل الخطوات تمظهر في اللقاء الذي عقدته دول 6+2+1 في المنامة أمس الأول وانتهى الاجتماع الثالث الذي يحصل في مثل هذه الصيغة إلى صدور بيان أعاد تنظيم المهمات في جدول أولويات يعطي فكرة موجزة عن ذاك الانتقال الذي باشرته الإدارة الأميركية في سنتها الأخيرة.

أهمية اللقاء أنه جاء قبل يوم من انعقاد قمة «دول الجوار» الموسعة التي أنهت أعمالها أمس في الكويت. فالإعلان الذي صدر عن المنامة اشتمل على مبادئ عامة لا يمكن التأسيس عليها. فالنقاط التي وردت اكتفت بتوضيح الخطوط العريضة من دون الدخول في التفصيلات ولكنها أشارت من بعيد إلى وجود نوع من التوجه البراغماتي الذي يعتمد سياسة تجريبية ليس بالضرورة أن تتوافق مع ذاك النهج الايديولوجي القسري (التقويضي) الذي أطلقته واشنطن ضد دول المنطقة منذ العام 2001.

إعلان المنامة

هناك تسع نقاط تضمنها «إعلان المنامة» وهي في مجملها ليست جديدة ولكنها قيلت وجرى التأكيد عليها في إطار تشاوري يمكن أن يمهد في المستقبل إلى تشكيل كتلة إقليمية عربية تعتمد بداية مجموعة مفاهيم هي مجردة الآن ولكنه بالإمكان تحويلها مستقبلا إلى وقائع ميدانية في حال تشكيل آليات (مؤسسات) لتنفيذها.

النقاط التسع أشارت إلى مجموعة توجهات عامة، فهي أكدت ضرورة احتواء المشكلات سلما (بيان شرم الشيخ في 2007) وأهمية العمل على حل المعضلة الفلسطينية على أساس مشروع «الدولتين» قبل نهاية 2008. وأعاد الإعلان التذكير برفض العنف والإرهاب تحت أي مسمى أو قناعة ايديولوجية (إعلان الرياض 2005) مشيرا إلى ضرورة التعايش وأهمية التسامح وضمان الاستقرار ورفض التمييز.

ربط «إعلان المنامة» هذه الأهداف بمجموعة شروط وزعها على نطاقين: الأول اقتصادي (التنمية، السوق المفتوحة، والإنتاج التنافسي) والثاني تربوي (تطوير التعليم ومحاربة الأمية ونشر ثقافة التسامح والدعوة إلى الحوار). وفي هذا السياق المزدوج توجه الإعلان نحو التأكيد على رفض انتشار الأسلحة النووية وتلك التقنيات المصاحبة للطموحات العسكرية ودعم التوجهات المسئولة التي تهدف إلى تطوير الطاقة النووية السلمية.

النقطة الأخيرة في «إعلان المنامة» لافتة في توجهاتها المستقبلية فهي أشارت إلى رفض التهديدات الأمنية التي توجه إلى دول المنطقة ودعت إلى تأكيد التضامن لمواجهة أي خطر أمني انطلاقا من قاعدة نظرية ربطت أمن الخليج وسلامته واستقراره بالاقتصاد ودور المنطقة الحيوي في التأثير على فعالية الاقتصاد العالمي. ومجرد اعتبار أن اقتصاد الخليج يشكل أهمية قصوى لمصالح الجميع وينعكس على التوازنات الدولية يشكل إضافة نوعية على الموقع الاستراتيجي الذي تحتله دول المنطقة في التأثير على اقتصاد العالم ونموه.

النقطة الأخيرة لافتة في إشارتها لأنها تلقي الضوء وبوضوح لا إشكال فيه على أهمية الخليج بالنسبة للاقتصاد العالمي. فالإشارة تعتبر المنطقة بمثابة خط أحمر لا يمكن التساهل مع الأطراف التي تفكر أو تحاول أن تعبث بأمنه نظرا إلى تأثيره السلبي على استقرار الاقتصاد العالمي وتوازناته.

النقطة المهمة التي توصل إليها اجتماع دول 6+2+1 لم ترد في الإعلان ولكن الدول المشاركة أخذت بها من دون ذكرها وهي تتعلق بإعادة إدخال العراق في المنظومة الإقليمية العربية. فالأخذ بهذه الخطوة عمليا ربما تكون إشارة نحو احتمال إعادة الدول العربية إلى العراق تمهيدا لتشجيعه للعودة تاليا وإدماجه للقيام بدور فاعل في إطار مؤسسة جامعة الدول العربية.

إعادة إدماج العراق في إطار منظومة إقليمية عربية جديدة وضعت الولايات المتحدة صيغتها في ثلاثة إطارات: الحفاظ على هويته العربية، إسقاط ديونه، والتخويف من النفوذ الإيراني.

مسألة التخويف من «الفزاعة الإيرانية» تعطي فكرة عن السياسة البراغماتية التي بدأت الإدارة الأميركية تجربتها ميدانيا في سنتها الأخيرة بعد فشل الأسلوب الانقلابي الايديولوجي في تحقيق أغراضه. فالمسألة واضحة في اشتراطاتها الميدانية حين ربطت عروبة العراق في إطار مهمة وظيفية تقوم على خطوة فتح سفارات وتبادل البعثات الدبلوماسية ودعم حكومة نوري المالكي بقصد الحد من التأثير الإيراني. فالعروبة مشروطة وهي موظفة في مهمة محددة لا تتصل بمشروع الهوية بقدر ما تتجه نحو بناء قوة إقليمية في إطار منظومة عربية.

هذه التحولات التي يمكن ملاحظتها ومقارنتها ومقاربتها توضح تلك الخطوط العريضة والغامضة التي أخذت الإدارة الأميركية تتعامل معها ضمن رؤية براغماتية تعتمد سياسة تجريبية تختلف عن ذاك «النمط الثوري» الذي ظهرت به واشنطن في مطلع عهد الرئيس بوش وتحت أشراف عصابة من الايديولوجيين (تيار المحافظين الجدد). التحولات التي طرأت على قراءة الملفات ضمن تصورات «عقلانية واقعية» لا تعني بالضرورة أن المنطقة دخلت عصر السلام وخرجت من دائرة العنف... إلا أنها تعني على الأقل أن هناك رؤية جديدة أخذت تتوالد ولا يمكن تحديد مواصفات صورتها منذ الآن.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2056 - الثلثاء 22 أبريل 2008م الموافق 15 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً