تُقرر حفائر التاريخ أن «المَدَنِيّةَ» في الشرق هي من لها السّبق في السياسة والتنظيم. بالتأكيد فإن الأخذ بهذا الرأي ليس تظهيرا لنرجسيّة كامنة أو استمتاع بفائت ناصع للاستقواء به ضد حاضر بائس بقدر ما هو حقيقة تاريخية.
باحث نَشِط كإيف شميل لا يتأفّف من تدوين حقيقة تلك المدنية الشرقية عندما يذكر أنها سعت قبل غيرها في حل مشكلتين كلاسيكيتين: الأولى تكوين رأي مشترك انطلاقا من آراء متنافرة، والثانية الإيمان بمجتمع سياسي مصطنع في الوقت الذي تمارس فيه المجتمعات الطبيعية نفوذا قويا على العقول.
في الشرق هناك اليابانيون والكوريون والصينيون والهنود الذين صاغوا شئونهم من خلال ثقافة قوس الشرق السحيق والقريب، وهناك أيضا الإيرانيون الذين استمرأوا السياسة بأطوار مختلفة، تتمازج فيها هواجس الدين والدنيا كما أفرزته الثورة الإسلامية.
من يقف اليوم داخل الحزام العربي يعلم أن جغرافية إيران هي الأقرب إلى نقطة التواصل بين الشرق والغرب (أو على أقل تقدير) فإن لديها حظوة في ذلك الممر بين الضفتين، وهو ما يعني موجبات مُحددة لذلك التجاور والتشاطئ تقضي بضرورة تشريح العقل السياسي الإيراني لفهمه، وربما أصاب الرئيس الروسي المنتهية ولايته فلاديمير بوتين عندما صرّح قبل أكثر من أسبوع بأنه «يتوجب علينا أن نتصرف بذكاء ونفكر معا في طريقة تساعدها (أي إيران) كي تصبح أكثر شفافية ونصبح قادرين على التكهن بتصرفاتها».
الإيرانيون عقلٌ آخر اصطدمت به الولايات المتحدة الأميركية بعد انفراط عرى الاتحاد السوفياتي، وربما لاحت بواكيره بعد حرب الخليج الثانية وما تبع ذلك من أحداث سواء ما يتعلّق بقانون داماتو (1996) أو المسعى اليميني لضمها داخل محور الشّر (2001) ثم توالي السياسات القاسية بين واشنطن وطهران بشأن احتلال العراق والملف النووي الإيراني.
سياسة الحياد «الفعالة» التي انتهجتها طهران في حربي الخليج الثانية والثالثة تبيّن أنها لم تكن غير موقف وحركة ودبلوماسية ومباحثات مع سائر الدول، وهو بالتحديد ما قاله نائب نقيب المهندسين محسن يحيوي.
من يستشعر أحوال الإيرانيين وشئونهم، لا أعتقد بأنه سيتجاوز هذه الحقيقة، وهي أنهم يُصنّفون الدول إلى أربعة نماذج يُديرون من خلالها سياساتهم الخارجية، الأولى «علاقة ندّية « مع دول عصيّة كبرى يُسيّرونها عبر استحصال ما أمكن من أوراق الضغط وتوظيفه بمحاذاة الدبلوماسية القاسية وجولات التفاوض والمحاصصة بينهم وبين تلك. وتظهر ملامح ذلك في كيفية تعاطيهم مع الدول كالولايات المتحدة وبعض دول شمال أوروبا.
الثانية هي علاقة «الحدائق الخلفية « التي لا تحكمها الجغرافيا بقدر ما تحكمها السياسات الجوّالة، والمصالح التكتيكية والاستراتيجية، وربط تلك الدول بالدورة الاقتصادية والتجارية لإيران كما هو الحال بالنسبة لسوريا وفنزويلا وكوبا والسنغال وبعض دول القرن الأفريقي، وإلى حدّ ما دول جنوب شرق القارة العجوز .
الثالثة علاقات «الدردشة وشَيّ الكستناء وشرب النبيذ « لتأجيل المؤجّل وتعليق المعلّق من الملفات المختلف عليها، وبشكل موازٍ العمل على تنمية العلاقات مع هذه الدول وفق المسارات المشتركة كما هو الحال مع بعض دول بحر قزوين وفي المنطقة العربية.
أما الرابعة فهي علاقات «الهوامش» التي تُنسَج مع مُكوّنات محددة داخل الدول المهترأة وتحويلها إلى أنوية صلبة على شكل كيانات رديفة بحكم الأيدلوجيا، بحيث لا تحتاج إلى الدولة إلاّ في «ربطة العنق» فتكون العلاقة بين الهامش والمركز علاقة مزدوجة ما بين التكامل والتنافس، كما هو الحال بالنسبة إلى حزب الله لبنان، والمجلس الأعلى والتيار الصدري في العراق وحماس والجهاد في فلسطين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2050 - الأربعاء 16 أبريل 2008م الموافق 09 ربيع الثاني 1429هـ