مصر الحضارة وعبق التاريخ وعمقنا العربي، أرض الكنانة السمراء التي منها تهب رياح الخماسين ونيلها الربيعي الباسم الجميل الذي يشطرها شطرين يلتقيان تحت شمسها كما العاشقين في قبلة فرعونية أبدية عند الدلتا، فتنمو بقبلتهما البذور وتزهر الأشجار وتولد من جنبهما الحياة.
مصر الحبيبة مصابة هذه الأيام كما الأيام التي خلت بحمى التضخم وغلاء الأسعار وارتفاع مستوى المعيشة، ارتفع ضغطها وتصلبت شرايينها كما قيل، واشتدت درجة حرارتها وازداد عطاسها، فبتنا نتوقع حدوث كوارث فيها أو زلزال في أرجائها! فهل ستحدث كوارث فيها أو زلزال في أرجائها؟ لما لا، ربما الاثنين معا! فالاضطرابات التي تشهدها والتي بلغت ذروتها بسبب ممارسات نظامها السياسي وأداء أجهزته الإدارية قد فاقم بصورة مباشرة وغير مباشرة من رفع وتيرة الاحتجاجات وتصاعد الصرخات وساهم في فيضان سيل الشكاوى وكيل الإدانات والاتهامات. ذلك حتما لن يسعف معه أي من العلاجات الآنية ولا جرعات الدواء المهدئة، لماذا؟ لأن الداء أكبر وأشرس من أن يقضى عليه بحفنة من المنشطات لإنقاذ المريض! بقى أن نترقب ونتوقع وصول الهزات السياسية الارتدادية التي ستنطلق من مصر إلى كل أرجاء الوطن العربي، ما يحتم إثارة سؤال بديهي للغاية: هل عطاس مصر سيصيبنا حقا، بعدوى الرشح؟ وإلى أي مدى؟
للإجابة على هذا السؤال لنقرأ ما كتبه أحد الكتاب العرب في تحليل له ذات يوم من أيام فبراير/ شباط في 2007 في صحيفة «الخليج» الإماراتية، لعله يسعفنا في رؤية المشهد بوضوح أكثر!
قال: «إن العاصمة التي كانت أحد محط الخلافة الإسلامية قد غرقت في الرماد المتساقط من الحرائق الكبرى الراهنة في الشرق الأوسط، إن إطلالتها على مسارات المنطقة ومصائرها هي إطلالة سلبية، فالمشهد الشرق الأوسطي يكاد يغيب في القاهرة، ربما عن قصد، أو هو يغرق في مستنقع الهموم الداخلية إلى درجة الاختناق، ربما عن غير قصد. لكنه في كلا الحالين مهمش». وأضاف قائلا: «إن شوارع عاصمة المعز تحولت، أو تكاد، إلى مرآب ضخم للسيارات يحتاج فيها المرء إلى ساعتين أو ثلاث لقطع مسافة كيلومترين أو ثلاثة، ومع هذا الانفجار في عدد الآليات، الذي يتساوق مع الانفجار الآخر في عدد السكان «الإجمالي قفز من 20 مليونا إلى 75 مليونا خلال 50 سنة، والعد مستمر»، لا مجال للتنفس في المدينة، وهذا على كل الصعد: البيئية، حيث تشكل عوادم العربات سحابة سوداء شبه دائمة؛ والاقتصادية، حيث تهدر يوميا مئات ملايين الجنيهات بسبب صعوبة وصول الناس إلى أعمالهم في الوقت المحدد؛ والنفسية، بسبب الإرهاق والاكتئاب والضجيج...»، ونوه أيضا إلى أن «هذا ليس كل شيء في هواء المدينة وأهوائها، فهناك دوما ما هو أهم: النظام السياسي نفسه، الذي بات واضحا أنه دخل مرحلة انتقالية دقيقة، وهذا ليس فقط بسبب تقدم رئيسه في السن، بل لأن احتمال حلول نجله مكانه، أصبح في أمر اليوم إعلاميا وسياسيا».
في سياق تشخيص هذا الكاتب العربي للمشهد المصري، يستشهد بحديث للباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام محمد سعيد إدريس حين تحدث عن الطريق المسدود الذي آل إليه حال أرض الكنانة، فضلا عما أشار إليه المفكر الاقتصادي والسياسي البارز جلال أمين من وصول الأمور المصرية إلى عنق الزجاجة. الحكم إذا، والتحليل ما يزال للكاتب، ليس بقادر على تجديد نفسه، بل على مجرد تمديد أجله، والمعارضة، خصوصا منها حركة الأخوان المسلمين، لا تفعل شيئا سوى تقديم الوعود عن برامج التغيير، والتغير بحسبه، هو فعلا ما تحتاجه مصر وعلى كل المستويات الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والاجتماعية، إذا ما أرادت تجنب التأثيرات المريعة للانفجار الديمغرافي، وإذا ما شاءت الإفادة من ثورة العولمة في المجالات الإنتاجية والتكنولوجية والاستثمارية. وإلى أن تتفتح براعم هذا التغيير، سيبقى الدور الخارجي التاريخي لمصر حبيس تمخضاتها الداخلية، فالتظاهرات من أجل المسجد الأقصى وفلسطين حدث يومي فيها، والقلق الرسمي من اتساع نفوذ إيران الإقليمي، أساسا على حساب النفوذ التاريخي لمصر، يترجم نفسه «طفرات» دبلوماسية وسياسية قوية بين الحين والآخر، وخصوصا حين يكون التقارب واضحا بين الموقفين المصري والأميركي!
هذا لب تشخيص وخلاصة استنتاجات الكاتب قبل عام، وهي خلاصات في واقع أمرها لا تبتعد كثيرا عما نقرأه اليوم من توقعات وتحليلات متعددة لكتاب آخرين ومراقبين، خصوصا مع حدث الأحد السادس من أبريل 2008، وهو اليوم الذي تصدرت فيه أخبار الصحافة العربية والعالمية ومواقع الشبكة العنكبوتيه، العناوين التي أبرزت دعوة نشطاء الانترنت إلى جموع المصريين للانخراط في الإضراب العام، «سواء بالامتناع عن النزول إلى العمل، أو ارتداء الملابس السوداء، أو وضع العلم المصري في شرفات البيوت، أو التظاهر في الميادين العامة، مع ضرورة أن يحمل كل مُضرب وردة في يده لجنود وضباط الشرطة»!
وبحسب المراقبين، فإن دعوة الإضراب العام قد لاقت صدى واسعا واستجابة في الشارع المصري لاسيما في ضوء موجة الغلاء المتصاعدة التي تجتاح الأسواق وتدني الأجور وسوء الأحوال المعيشية للغالبية العظمى من المصريين، وإن هذه الدعوة في الأساس جاءت ارتدادا إلى الاعتصام والإضراب الذي انطلق منذ شهور لعمال غزل مدينة المحلة (دلتا النيل) احد المراكز الرئيسية لصناعة النسيج، فضلا عن إعلان 25 ألف عامل في المدينة نفسها مؤخرا لبدء الإضراب في السادس من ابريل للمطالبة بزيادة الأجور، يضاف إليها الحركة التضامنية مع المدونين على موقع «فيس بوك» الشهير، وما تفيد به الأنباء من أن المجموعات البريدية على الشبكة هي التي لعبت دورا بارزا في الدعوة للإضراب العام كما الجامعات المختلفة، حيث تلقفت الدعوة قوى سياسية مصرية وأعلنت عن مشاركتها، كحزب العمل المجمد والكرامة تحت التأسيس وحركة كفاية وموظفي الضرائب العقارية وإداريي وعمال القطاع التعليمي ونقابة المحامين وحركة أساتذة الجامعات المصرية، فيما راوحت جماعة الإخوان المسلمين مكانها ما بين تأييد الإضراب والانخراط فيه والتحفظ على طريقته وآلياته...(انظر «الخليج» الإماراتية 5 أبريل 2008)!
إلى هنا، ونحن في حال ترقب لارتدادات عطسة مصر والإصابة على إثرها بالرشح وربما السعال، لاسيما وان ارتفاع مستويات الحرارة في أبداننا مستمر بسبب ارتفاع وتيرة الغلاء وزيادة الأسعار التي باتت ظاهرة مخيفة ومرعبة تتمدد بصورة سريعة وخطيرة للغاية، فهل من يقرع طبول الشكاوى ودفوف الاحتجاج لوقف سيل هذه الوتيرة؟
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 2041 - الإثنين 07 أبريل 2008م الموافق 30 ربيع الاول 1429هـ