كان كموقد الأمل بالنسبة لي، تصلني ملاحظاته ملؤها الحنان. تطرق شيئا ما في روحي. تتهادى الكلمات بيننا من خلال مرسال، يصل أحيانا وغالبية الأحيان قاطع الودّ. تدور رحى الزمن لتطحن ما تبقى له من أيام. يقضي آخر يوم في حياته من دون مراسم وداع جنائزية... يترك سويعات كأني قضيتها معه دونما تسجيل. حتى في موته هو يرسل إشارة تعني: هكذا يرحل الأخيار بصمت. فإلى سجل الخالدين وإلى الفردوس الأعلى يا أغلى الأحبة.
يبقى ما لديّ من وهج ذاك الإحساس الوقاد ما أستطيع به إضاءة ألف طريق وطريق... تلك الظلمة التي أنارتها قناديل حبك ورسائل محبتك عذوبة. كانت كلمات إطرائك - التي كنت تغمرني بها بين الفينة والأخرى - تصلني عبر أثير بارد كريم، ترعاها كفوف تنضح محبة وصفاء، ونبض حياة.
كلّ الأجساد تفنى وتبقى الأرواح تحلق بذكرى أصحابها حولنا، نستمد منها طاقة الوجود لمطارحة الألم والتشبث بالأمل... هذا الأمل لولاه لما كان هناك من يصارع من أجل البقاء. وبقدر ما يكون الألم هناك الأمل، أليست حياة المرء منا هي خلاصة آلام وآمال؟! فإن كان الماضي يسجل انكسارات المرء وحسراته، فذلك لأنه بالإمكان أن يسجل المستقبل للمرء انتصاراته في هذه الحياة. ويكفي بالأمل بارقا يلوح في أفق الإنسان ليقدم كل ما هو جميل في هذه الحياة. وتكفي الذكرى الجميلة لتنير طريق الطامحين للنجاح في الحياة.
من تلك الذكريات لدي ما يفوق سويعات رائعة قضيتها على ضفاف نيل بلا زُرقة، وأكثر من غدرِ فجرٍ بليل معلنا خنق ليلة حالمة على وسادة شمس نهار قائض، نهار نصارع فيه الهموم وجها لوجه!
مهما يكن لفقد الإنسان لعزيز لديه من ألم يعتصر الضلوع إلا أن الذكريات - وبما تحمله من مساحات الألم - تقدم مساحات للأمل، لمن لديه نظرة حانية على نفسه، ويحمل في رأسه خطة يواجه بها يوميات حياته، ويعمل على تنفيذ أهدافه في الحياة وتأدية رسالته كإنسان. يبقى في محصلة الأمر أنه لا يجوز وليس مقبولا أن تكون الذكرى إلا وقودا يدفع بالمرء إلى التقدم في الحياة وحصد النجاحات والانطلاق ناحية تحقيق الآمال.
إذا، الذكريات تتنوّع بين ما هو جميل وحيويّ ومفيد للإنسان، بل لابدّ منه في حياتنا، وبين ما هو مُحبط ومُثبط للعزائم. وأعتقد أن الاثنين من صنع الإنسان ذاته، ليس لأحد خيار في حياتنا أن نشقى بمرّ ذكرياتنا، بل نحن من نقولب هذه الذكريات ونعمل على قولبتها حزنا أو فرحا، إحباطا أو تفاؤلا... وبالتالي نحن نتحمّل المسئولية كاملة عن خسارتنا أو إخفاقاتنا.
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 2041 - الإثنين 07 أبريل 2008م الموافق 30 ربيع الاول 1429هـ