العدد 204 - الجمعة 28 مارس 2003م الموافق 24 محرم 1424هـ

التونسيون: لا يمكن أن يكونوا إلا مع العراق

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

للمرة الأولى تسمح السلطات التونسية للأوساط الديمقراطية المحلية بتنظيم مسيرة تضامنية مع العراق. حدث ذ 

في أكثر من مناسبة، شكلت الأزمات العربية عاملا قويا في تنشيط الوعي بالانتماء لدى التونسيين، وتعبئة المجتمع المدني والأهلي المحلي، الذي يجد نفسه مدفوعا نحو تجاوز تناقضاته الصغيرة واهتماماته المحلية. فالهزات القومية توافر فرصة ذهبية لتنشيط الحياة السياسية والجمعوية التي تعاني عادة من الركود والتفتت نتيجة عدة عوامل، من بينها انحسار الحريات الأساسية.

حدث ذلك منذ العشرينات والثلاثينات، حين كان التونسيون يتابعون بشغف كبير ما يجري ويكتب في المشرق العربي، ويتفاعلون بالخصوص مع مختلف تطورات القضية الفلسطينية. وقد تأججت المشاعر نفسها خلال هزيمة 67، واجتياح بيروت، وحرب الخليج الثانية. وها هي الحالة نفسها تتجدد مع حرب الخليج الثالثة.

فخلافا لما يظنه بعض أهل المشرق، يشعر التونسيون بانتماء قوي لكل ما هو عربي وإسلامي. صحيح أنهم تأثروا كثيرا بالتوجهات الثقافية والسياسية للزعيم الحبيب بورقيبة، الذي كان يحرص دائما على تذكير مواطنيه بأنهم «أمة» قائمة بذاتها، وأنهم يختلفون كثيرا عن بقية العرب، وأنهم أقرب إلى أوروبا من الشرق. كما عمل سياسيا وثقافيا على عزلهم والحد من التأثيرات المشرقية عليهم. فهو كان يعاني من «عقدة» ثقافية، وسكنه إحساس أن العرب خذلوه أثناء مرحلة النضال الوطني، إضافة إلى اعتقاده أن الخطاب القومي العربي عاطفي ولا عقلاني. لكن على رغم ذلك، بقي الحس العروبي قويا ومتدفقا لدى عموم التونسيين. وتنامى هذا الحس خلال السنوات الأخيرة بفضل الفضائيات وتصاعد حدة التوتر على مختلف الأصعدة. بحيث فشلت كل محاولات تأسيس أحزاب قومية فاعلة على شاكلة البعث أو الناصريين، إلا أن جميع الأحزاب تقريبا تؤكد في برامجها وشعاراتها التضامن في بعديه المغاربي والعربي، وتتبنى رؤية وحدوية قائمة على التدرج وعدم القفز على الخصوصيات الوطنية، والتركيز على الشراكة الاقتصادية وتشبيك المصالح.

التونسيون والعراق وصدام حسين

لم يكن ممكنا أن يشاهد التونسي العراق يحترق ويبقى صامتا وغير مبال لما يجري ويحاك للمنطقة وشعوبها.إن العراق يحتل لدى التونسيين مكانة ذات عمق تاريخي. إنه جزء من ذاتهم الثقافية وذاكرتهم التاريخية. وإذا كان هناك من يعتبر صدام حسين «بطلا تاريخيا وقائدا سياسيا نموذجيا»، فإن غالبية ذوي الرأي والفاعلين في الساحة لا يشاطرون هذا الاعتقاد، ويميزون بوضوح بين العراق والنظام الذي يحكمه، ولا يتمنون استنساخا لتجربة البعث في الحكم. وقد سبق للنخبة التونسية أن انقسمت على نفسها في مطلع التسعينات عندما غزت العراق الكويت، ويعتقد الكثير من المثقفين والسياسيين، أن النظام العراقي ارتكب الكثير من الحماقات خلال تجربته السياسية الطويلة.

وقد طالب مسئولون على عدة أحزاب وجمعيات، في تجمع تم تنظيمه حديثا في تونس، بدمقرطة الحياة السياسية في العراق، وبينوا في كلماتهم مخاطر الاستبداد والانفراد بالسلطة. لكن الرأي السائد حاليا في تونس هو الاعتقاد أن الحرب الحالية فاقدة للشرعية، ومناقضة لكل الأعراف والأخلاق والقوانين، ولا علاقة لها بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وحتى لو افترضنا أن الأميركان قد تحولوا بقدرة قادر إلى رسل الديمقراطية المجردة عن مصالحهم، فإن الديمقراطيين في تونس يرفضون مثل غيرهم في معظم أصقاع الأرض أن تكون الحروب القذرة وسيلة لتحقيق ذلك. لهذا السبب بالذات فقدت واشنطن أقرب أصدقائها و«حلفائها» في صفوف النخبة التونسية.

عزلة السفير الأميركي والدعوة إلى طرده

لم يحدث أن عاش سفير أميركي بتونس حالة من العزلة، مثلما حصل للسفير الحالي. «فراست ديمينغ» جاء إلى تونس وكله ثقة في أن يوسع من دائرة أصدقاء الولايات المتحدة. لكنه منذ الحرب على أفغانستان، والعدوان الشاروني على الفلسطينيين، وهو يعاني من عجز على تسويق سياسة بلاده. وعلى رغم أنه ديبلوماسي نشيط، وكثير التنقل والاتصال وحظور مختلف المناسبات، إلا أنه أيقن أن التوجهات الاستعمارية لبلاده لا يمكن أن يجد لها مسوغات، أو أن تقبلها الأوساط التونسية، بما في ذلك الفئات التي لها مصالح عضوية مع جهات أميركية كثيرة. ولا شك في أن أصوات المتظاهرين الذين طالبوا بطرده وغلق السفارة، قد بلغته وبينت له مدى الخسارة السياسية التي تكاد تنسف جهود سنوات طويلة. واللافت للنظر أنه في مقابل عزلة السفير الأميركي، يحظى السفير الفرنسي بالقبول والترحاب من قبل الجميع. وهو أمر بالغ الدلالة إذا وضع في سياق التنافس الأميركي الفرنسي بشأن منطقة المغرب العربي.

مسك العصى من الوسط

في هذه الأجواء تحاول السلطة أن تكون حذرة، وتتجنب الوقوع مرة أخرى في المأزق الذي وجدت نفسها فيه خلال حرب الخليج السابقة، حين تأزمت علاقاتها مع الكويت والسعودية، وفسر موقفها بأنه وقوف إلى جانب النظام العراقي. فتونس تعتبر حليفا تقليديا لواشنطن، وهو ما أكده مسئولون أميركيون كبار خلال زياراتهم الأخيرة. وهناك حرص مشترك على تطوير العلاقات الثنائية، كما تتهيأ الجهات التونسية لضبط الخسائر والتأثيرات السلبية المتوقعة للحرب على الاقتصاد المحلي. لهذا على رغم التقارب الذي سجل بين المعارضة والسلطة، فإن هذه الأخيرة تحاول أن توازن بين مصلحة الدولة التي تقتضي عدم الانسياق وراء التيار العام المعادي لأميركا، وبين عدم الظهور بمظهر المتحلل من المسئولية تجاه العراق. لهذا لم يكن صدفة أن يكون آخر ديبلوماسي يلتقي به الرئيس صدام حسين قبل اندلاع الحرب هو زير الخارجية التونسي الحبيب بن يحيى.

هكذا يبدو المشهد التونسي حاليا: الشعب والنخبة ضد الحرب والسياسة الأميركية، وموقف رسمي يعمل على مسك العصى من «الوسط»، من أجل حماية المصالح الحيوية حاضرا ومستقبلا، عن طريق الدعوة إلى وقف الحرب والعودة إلى الوسائل السلمية

العدد 204 - الجمعة 28 مارس 2003م الموافق 24 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً