ثمة سباق محموم على مستوى الدعاية والإعلام والحرب الاستخبارية بين مَنْ يروّجون أو يعتقدون حقا أن الضربة الأميركية لإيران واقعة لا محالة, وبين مَنْ يعتقدون أن الوضع الدولي العام لم يعد يسمح لأميركا بالمجازفة بمثل هذا العمل فضلا عن كونه بات من صنف «المقامرة»!
الشئ نفسه يكاد ينطبق على الحالة المرتبطة بإمكانية حصول هجوم إسرائيلي ما، على سورية أو حزب الله اللبناني باعتبارهما حليفين وفيين «للمشروع الإيراني» في المنطقة، إذا ما افترضنا صحة المقولة القائلة إن المعادلة الأساسية المتحكّمة بسير تحوّلات المنطقة فعليا هي الصراع بين المشروع الأميركي الإسرائيلي الباحث عن «شرق أوسط جديد» من جهة, والمشروع الإيراني المضاد «الحاضن» للممانعتين السورية واللبنانية وإلى حد ما الفلسطينية، والباحث عمّا يسميه بشرق إسلامي مستقل عن الهيمنة الإسرائيلية برعاية أميركية من جهة أخرى!
لكننا اذا ما اعتمدنا المقولة التاريخية الشهيرة التي تقول «إن الحرب هي استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى» يمكننا التأكيد بأنّ ما يجري على الأرض في أكثر من ساحة متعلقة أو متصلة بهذا الصراع هو في الواقع نوع من الحرب المفتوحة بين المشروعين لم تهدأ يوما, كل ما هنالك أنها لم تنفجر حتى الآن بشكل شامل, ليس لأنّ لا إرادة للأميركي أو الإسرائيلي في تفجيرها الشمولي أو الواسع بالضرورة, بل لترددهما أو عجزهما عن اللجوء إلى مثل هذا الخيار بعد تجربة الأميركية المرة في العراق وتجربة الإسرائيلي الأمرّ في جنوب لبنان !
وهنا ثمة مَنْ يضع ما جرى مؤخرا في جنوب العراق وتحديدا التفجير الأمني والعسكري الواسع الذي جرى في البصرة تحت عنوان «صولة الفرسان» لم يكن سوى محاولةأميركية محبكة بعناية لاختبار مدى قوّة النفوذ الإيراني في المنطقة التي تعتبر البطن الرخوة من الجسم العراقي, وتاليا كمقدّمة لاختبار مدى نجاعة القيام بضربة عسكرية معيّنة لإيران على الطريقة التي عملت لسورية من جانب الطرف الإسرائيلي في المعادلة!
لكن قوّة الردع السريع التي تميّزت بها القوى المختلفة العاملة في المنطقة «الاختبارية» وفي مقدّمتها التيار الصدري وتحويلها المعركة من دائرتها الضيّقة المحدودة إلى دائرة العراق الأوسع جعلت الأميركيين ليس فقط يندمون على مثل ذلك الاختبار بل يتراجعون عنه بشكل مُهين إلى الدرجة التي اضطروا فيها إلى الاستنجاد علنيا ورسميا بالطرف الإيراني لوقف التدهور المريع الذي حصل للقوات العراقية العسكرية والأمنية الملحقة بالاختبار, بما يذكر بتجربة الجنوب اللبناني وحرب الـ 33 يوما الشهيرة في العام 2006 والتي قيل يومها أنها تجربة مصغرة لاختبار إمكانية اللجوء إلى هجوم أميركي واسع على إيران!
وكلّ التقارير المستقلة الواردة من ميدان الصراع تقول إن الأميركيين هم مَنْ كانوا وراء هذه الجولة «المتهورة» كما يقول عنها حلفاؤهم العراقيون, والذين يؤكّدون على أن الجانب الأميركي إنما أبقى خبرها في دائرة محدودة ولم يُخبر بها دوائر موسّعة من الحلفاء حتى يفاجئ بها ويختبر «الصديق» والخصم معا!
فبينما كانت الأنظار متجهة لحملة الموصل بحجّة استئصال القاعدة من جهة والقضاء على خلايا المقاومة المنتشرة في البلدة من جهة أخرى, فاجأ الأميركيون الكثير من حلفائهم عدا دائرة المالكي الضيّقة بالتوجّه جنوبا نحو البصرة؛ لأجل مباغتة المنطقة الغنية بالنفوذ الإيراني الواسع كما يعتقدون, والتي من خلالها سيكتشفون مدى قدرة الخصم على الرد السريع ومدى قدرة «الصديق» والحليف على التجاوب مع الحملات الطارئة.
وإذا بالبصرة تسقط خلال الساعات الأولى بيد الخصوم, ومن ثم يحدق الخطر بالحليف الأساسي و»الأصدقاء» عموما إلى درجة ذكّرت العراقيين بالأجواء التي سادت العراق أيام الانتفاضة الشعبانية الشهيرة في زمن حكم صدّام حسين والتي خرجت فيها نحو 14 عن السلطة المركزية, فكان ما كان من حراجة وضع المالكي والدائرة المصغرة المحيطة به وتحت إصرار الأميركيين بضرورة وقف «الاختبار» الأمر الذي أجبرهم على إرسال وفد موسّع للتفاوض مع المعنيين في طهران ومع قيادة التيار الصدري لحفظ ماء وجه الحكومة العراقية في المركز وانقاذ الخطة الأميركية من فضيحة الانكشاف المريع الذي كان ينتظرها لو استمرت المعارك ليوم واحد إضافي أو يومين!
لقد سارع البعض من الضفة الأخرى بالطبع لاعتبارها «جرة أذن» محكمة للمالكي من جانب الإيرانيين, فيما اعتبرها البعض الآخر من داخل معسكر المالكي بأنها كانت فخا نصب له بإحكام من جانب الأميركيين لاختبار مدى قدراته كحليف يمكن الرهان عليه!
أيا تكن الحالة إلا أنّ القدر المتيّقن منها هو «اختبار» ومناورة أميركية بالذخيرة الحيّة لاكتشاف مدى قدرة واشنطن على مباغتة الإيرانيين في المنطقة الأقرب هذه المرة للأراضي الإيرانية واكتشاف مدى قدرة الإيراني على التعامل مع الظروف الطارئة والمباغتة!
انها مجرد نموذج مصغر على الحرب المفتوحة المذكورة أعلاه كما يعتقد أصحاب الرأي القائل بصراع «المشروعين» الآنفي الذكر على مستقبل المنطقة, في الوقت الذي تفرض فيه موازين القوى المتساكنة على الساحتين اللبنانية والفلسطينية مجرد تجميد موازين القوى هناك الى حين انجلاء الرؤيا في سماء الانتخابات الأميركية من جهة, وتطورات الوضع الدولي المتسارعة باتجاه المزيد من انكسار الاحادية الاميركية من جهة والتعددية القطبية من جهة أخرى.
ثمة نموذجان آخران حاولت الادارة الأميركية معهما ومن خلالهما ولا تزال وإن بوسائل أخرى خوض الصراع والحرب المفتوحة مع خصومها في المعسكر الآخر, وذلك من خلال اللجوء إلى الخيار الأمني الأقوى أولا, وذلك عبر اغتيال القائد العسكري الكبير للمقاومة اللبنانية الحاج عماد مغنية في العاصمة السورية بهدف إرباك التحالف الثلاثي, ومن ثم إحراج السوريين لإخراجهم مما يسمونه بالمحور السوري الايراني إن أمكن. ثم عندما لجأت بعد ذلك إلى الخيار او المعركة الديبلوماسية في محاولة لاختبار مدى حيوية وديناميكية إدارة دمشق للدورة الحالية للقمة العربية, وهو ما تجلى بأقوى حلقاته في محاولة إحباط نجاح انعقاد القمّة في دمشق إنْ أمكن ومن ثم إبقاء سورية منعزلة عن محيطها العربي الطبيعي ما دامت متمسكة في رهانها على الحصان الإيراني!
وهنا وكما يعتقد المحللون العالمون ببعض بواطن الأمور فإنّ النموذجين الامني والديبلوماسي في الحرب المفتوحة سيستمران بقوّة على الساحتين اللبنانية والسورية, فيما ستسعى «إسرائيل» مجددا الى تكرار تجربة محرقة غزّة بين الفينة والأخرى إلى حين انتهاء ولاية بوش وانقشاع الرؤية بشكل أوضح لمعركة الصراع على هوية «الشرق الاوسط» بين من يريدها طارئة ومستوردة ومقسمة ومتناحرة؛ لتصبح إسرائيلية بامتياز ومن يريدها موحّدة وأصيلة ومتصالحة مع تاريخها وأهلها بامتياز؛ أيّ عربية مسلمة غير ملوثة بأي شكل من أشكال التمييز العنصري والعرقي!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 2039 - السبت 05 أبريل 2008م الموافق 28 ربيع الاول 1429هـ