العدد 2037 - الخميس 03 أبريل 2008م الموافق 26 ربيع الاول 1429هـ

سياسات المحافظة على التراث المعماري

مبنى البريد القديم مثالا

أحمد عبد الرحمن الجودر comments [at] alwasatnews.com

طرح عضو المجلس البلدي لمدينة المنامة وعضو لجنة تطوير سوق المنامة حميد البصري، الخلاف حول الحفاظ على مبني البريد القديم أو هدمه ومن ثم إعادة بنائه طبق الأصل أو باستلهام الخصائص المعمارية التقليدية، على جمهور قرّاء «الوسط»، عدد الأربعاء 19 مارس/آذار الماضي. وحيث إن الموضوع يمس الكثير من المفاهيم الثقافية والقيم الحضرية، أحببت المساهمة بهذه المقاربة لوضع القراء في السياقات الفكرية والثقافية في التعامل مع التراث المعماري، ليتسنى لهم الإحاطة بالإشكاليات المحيطة بالموضوع، وفي المحصلة الأخيرة فإنّ التراث هو حق للبشرية وتتعهد الدساتير والمواثيق بصونه وحمايته.

واستهل بالإشارة إلى أنه تم سهوا نشر صورة مبنى الجمارك القديم الذي يُستخدم حاليا كمكتب بريد منطقة باب البحرين، بينما كان المقصود المبنى الكائن مقابل باب البحرين والذي يضم البريد السابق ومركز الشرطة، حيث يجري حاليا بناء سوق تجارية جديدة بعد إزالة الدكاكين القديمة على شارع باب البحرين.

ثراء إرث المدينة المعماري هو في طول عمر رصيدها العقاري، والمدينة التي تنمو بذكاء، تراكم من مبانيها القديمة المستخدمة والتي ترجع إلى فترات تاريخية مختلفة قد تمتد خلال قرون، وتعمل على إدامة استخدامها، فمثلما تحافظ على آثارها لما قبل التاريخ، أيضا تهتم بالمحافظة على تراثها الحديث، وتؤهل مبانيها القديمة وتدوّر من استخدامها، مع الحفاظ على طابعها المعماري.

التراث... عندنا وعندهم

في دولنا الخليجية لو أخذنا المباني التي بنيت قبل 40 سنة ولاتزال تحت الاستعمال، لكانت مباني قليلة تعد على اليد، لكن في الدول التي حققت تنمية جيّدة وصغيرة في حجمنا كسنغافورة مثلا، فإن المباني التي يتجاوز عمرها 40 سنة وتستخدم هي بالآلاف، وهناك ما يتجاوز عمرها 100 عام وتستخدم ولعلها بالمئات. هذا الرصيد العقاري المحمّل بالأصالة والهوية المحلية، هو ما يعزز دور الدولة المدنية في احتضان الأنشطة والفعاليات الاقتصادية، ويجذب الزوّار والسياح إليها، ويزيد من الشعور بالفخر من بين مواطنيها. ولا غرابة فإنّ الحكومة هناك والقطاع الخاص يقومان كل عام بترميم مئات المباني التراثية والأحياء القديمة بالتوازي مع حرصهما على بناء المناطق الجديدة.

ويتكون الرصيد التراثي من تنوع في خصائصه، فهناك ما هو محمّل بقيم جمالية فنية عالية من زخرفة وفنيات عمارة وتقنيات تشييد وبناء، وهناك مبان قديمة متواضعة من الناحية الفنية والجمالية لكنها ارتبطت بحدث تاريخي أو رمز وطني، مما عزز من قيمتها وأهميتها في ذاكرة المجتمع، لذلك تشكّل الدول هيئة أو لجنة وطنية عليا تقوم بحصر المباني التي لها قيمة فنية أو تاريخية وتصنّفها بحسب الأهمية إلى أربعة مستويات أو نحو ذلك.

وقد حددت «اليونسكو» والمنظمات المتخصصة التابعة والمتعاونة معها مجموعة من المبادئ والتوصيات والإرشادات التي تنظّم عملية الحفاظ على المباني التراثية والتاريخية وحدود المعالجة الممكنة لكل صنف بحسب أهميته. والمباني التي ترقى إلى التصنيف التراثي هي نخبة مختارة من كم كبير من المباني القديمة، وإذا كان للمباني القديمة الواقعة ضمن القائمة الوطنية، الإطار القانوني لحمايتها فان المباني القديمة خارج هذه القائمة كثيرة وتتعرض لتهديد الإزالة وبناء عمارات عالية محلها.

لذلك عمدت الدول إلى سياسات حضرية للحفاظ على المناطق القديمة وحفظ طابعها وهويتها المعمارية، من جهة ترعى مشاريع الحفاظ على المباني المختارة في قائمة الحفاظ، ويتوسم أنْ تشجع هذه الرعاية وتؤثر على تطوير المباني المجاورة لها على نهجها، كما تلجأ الدول إلى تعجيل وتيرة ذلك والسيطرة على التطور من خلال تبني السياسات التحفيزية لتشجيع أصحاب المباني على ترميمها إذا أمكن أو بنائها من جديد وفق مفردات الهوية المعمارية. فلا يكفي أن نحافظ على مبانٍ قائمة كمباني مستقلة بذاتها ونخسر محيطها، بل المطلوب أنْ تندغم هذه المباني في محيطها المتجانس معها.

ومن جهة أخرى يتطلب ذلك قيام الدول بتطوير وتحسين شبكة وإدارة الطرق والمرافق، وتنويع استخدامات الأراضي في هذه المناطق القديمة ذات الطابع المعماري المميز بما يزيد من عملية الاستثمار فيها وتوفير فرص العمل، من دون الإخلال بطابعها المعماري المميز وخصائص نسيجها العمراني، ويجعلها مراكز نمو حضري تستقطب السكّان والسيّاح والزوار.

مبادرات للحفاظ على المباني التراثية

يتساءل عضو المجلس البلدي إذا كانت لمبني البريد القديم المتصدع أي قيمة تستدعي الحفاظ عليه؟ صحيح انه مبنى لا يضم زخارف جبسية أو خشبية اشتهرت به الأعمال البحرينية المميزة مثل بيت خلف أو بيت سيادي، لكنه يعبر عن العمارة في الفترة الاستعمارية، ويعبر عن عمارة المكاتب الإدارية التي تم استحداثها في فترة الثلاثينيات حتى الخمسينيات وحيث تعرضت أغلب مباني هذه الفترة إلى الضياع جرّاء الهدم وإقامة المباني الحديثة محلها. قد يبرر ذلك توجه الحفاظ على بعضها، فمن حق المجتمع في المعرفة والمعلومات أن يعرف كيف كانت بداية العمل الإداري الحكومي، وأجهزته وبيئة مبانيه.

كما أنّ القطاع الخاص قام بالكثير من المبادرات في ترميم بعض المباني التراثية، ونسمي بعضها، مثل: بيت عبد الله الزايد رائد الصحافة والطباعة في البحرين، بيت الشعر بيت الشاعر الكبير إبراهيم العريّض، بيت محمد بن فارس رائد فن الصوت، بيت جمشير، واللوفونتين مما يجعل الكرة في مرمى الحكومة، كما يقولون، لترميم بعض المباني الحكومية القديمة، والتي تعكس البدايات المبكرة للعمل الإداري العام.

وبالنظر إلى موقع المبنى في وسط العاصمة القديمة، ومجاورته لمبنى باب البحرين ما يسند عملية الحفاظ عليه، فسقوط المباني القديمة واحدا إثر آخر مع قيام المباني الجديدة بشققها السكنية المتعددة مع ندرة المواقف يعقد من الحركة والوصول إلى هذه المنطقة، ما يحد من حيويتها ونموها الاقتصادي.

ربما هذه التحولات وما صاحبها من تغيرات طرأت على أحيائنا القديمة هو ما عبّر عنه أديبنا الكبير تقي محمد البحارنة، أمد الله في عمره، بصدق وحس مرهف في حديث الذكريات، والذي بدأ في «فضاءات الوسط « العدد 2022، (الخميس 20 مارس/آذار 2008) بقوله «أشعر بالغربة حين أزور بيت العائلة»، وهو لا شك يعبّر عن شعور حال الجميع عندما يزورون أماكنهم الحميمة في الطفولة والصبا، أفلا نكون أكثر إنسانية وإحساسا بذاكرة المكان وجمالياته في معالجتنا للتطوير العمراني والحضري في أحيائنا وقرانا القديمة.

عمليات الحفاظ على المباني التاريخية والتراثية سلسلة من المعالجات والتدخلات مثل، حماية المبنى وعناصره من: التصدع والتشققات، الرطوبة، الأملاح، الفطريات والحشرات ومعالجة جذور هذه المشاكل وأسبابها وليس الاقتصار على مظاهرها. كذلك تشمل عمليات الحفاظ تأهيل هذه المباني لتوظيفها للاستخدامات الجديدة دون الإخلال بطابعها وشخصيتها المعمارية، وتسبق عملية اقتراح نوع التدخل والمعالجة المطلوبة القيام بعمليات توثيق دقيقة وعمليات تقصي وبحث لفهم المبنى وطريقة تطوره والتحولات والتعديلات التي مرت عليه، وما هي المشاكل التي تهدد سلامته وقياسها علميا وفحصها مختبريا نحو الوصول إلى الطرق الكفيلة بمعالجتها جذريا. هذه البحوث والدراسات سابقة ضرورية؛ لتتضح المسارات الملائمة والخيارات المتاحة في التعامل مع المبنى التراثي وكيفية استخدامه لاحقا بعد استشارة ذوي العلاقة ورفع النتائج والتوصيات إلى متخذي القرار.

إحياء الآثار ودعم السياحة

يظهر على تصميم وطريقة بناء المبنى التكيف والاستجابة مع متطلبات المناخ فهو يضم ليوانا يحيط بالمبنى في الدور الأرضي والأوّل كما يضم ممرات للإضاءة والتهوية، لكن مع انتشار الكهرباء وأجهزتها في تلطيف الجو والإضاءة، والحاجة إلى التوسّع في المكان لتوسّع مجالات العمل الحكومي طمس هذا الجانب من المبنى، ولا شك إنّ حماية المبنى من منطلق ثقافي، مهنيا، سيستجلى مثل هذه المعطيات؛ لتكون عملية المحافظة في سياقها الصحيح.

ومن الاحتمالات الممكنة التي يمكن النظر فيها في توظيف المبنى جهة البريد كمتحف مكثف لآثار البحرين للسائح القادم في زيارة سريعة للبحرين، أو استحداث متحف للطوابع التاريخية للمملكة وبيع إصدارات اليوم الأوّل للطوابع، واستحداث نقطة أمن السوق جهة قسم الشرطة أو إحياء حرس الأسواق بملابسها وأسلحتها القديمة وقيامها بدوريتها الاستعراضية لتكون عاملا لجذب السياح إلى المنطقة وقضاء بعض الوقت فيها.

ولعلّ في تداعيات ما تنشره «الوسط» على الرأي العام عن الموضوع، ما يحفز البعض ممن يمكنهم الإدلاء بذكرياتهم مع المبنى أو عرض ما لديهم من صور قديمة له، وتوفيرها للقائمين على مشروع الحفاظ على المبنى؛ لتساعد بدورها في وضع عملية الحفاظ في إطارها الصحيح وبالشراكة المجتمعية لإعادة حميمية ذاكرة المكان وجمالياته.

إنّ جوهر المشكلة لدينا يكمن في غياب ثقافة الحفاظ وشيوع ثقافة الاستهلاك، وعلينا كمثقفين ومربين أن ندعو ونؤسس لثقافة الحفاظ والمحافظة على التراث، لما لها من مردود اجتماعي واقتصادي كبير على الأمّة والوطن. ومن شأنها أنْ تطيل من عمر استعمالنا للأشياء، فإذا كان متوسط عمر استخدامنا للسيارة أو البيت مثلا 5 سنوات و25 سنة على التوالي، ولو رفعنا عمر الاستخدام بحكم ثقافة الحفاظ وما تكسبنا من سلوك إلى 15 سنة و75 سنة، فنكون قللنا من استنزافنا وتلويثنا للبيئة، وحققنا وفرا كبيرا بالمليارات في ثرواتنا يمكن لنا توظيفها في بناء قوتنا ونهضتنا على أسس الاستدامة.

العدد 2037 - الخميس 03 أبريل 2008م الموافق 26 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً