العدد 2035 - الثلثاء 01 أبريل 2008م الموافق 24 ربيع الاول 1429هـ

أزمة خبز أم أزمة ليبرالية شرسة؟

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

على السطح يبدو أن أزمة الخبز التي اجتاحت مصر في الأسابيع الأخيرة قد عكست أزمة أشدَّ تتمثل في اتساع مساحات الفقر، وحِدّة ارتفاع الأسعار، وخصوصا السلع الغذائية والاستهلاكية، وكذلك فعلت أزمة نقص مياه الشرب في العام الماضي.

وقد بادر كثيرون إلى تبرير مثل هذه الأزمات الحادة، وخصوصا نقص الخبز ونقص المياه، بإرجاعها جميعا إلى مجرد سوء إدارة، أي غياب واضح لقدرة الإدارة الحكومية على الإنتاج والتوزيع السليم، ومن ثم جرى إلصاق تهمة التقصير أو الفشل بالحكومة الحالية، التي طالتها سكاكين وخناجر أضعفت ثقتها بنفسها، على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.

ولعلي أتفق جزئيا مع تبرير سوء الإدارة أو غيابها؛ مما أدى إلى تراكم الأزمات من دون أن تجد «إدارة حكومية» قادرة على المواجهة وابتكار الحلول والبحث عن مخارج للتخفيف على المواطنين المنهكين.

غير أن الأصل والأساس في الأزمة يكمن في ما هو أكبر وأعم وأهم من الإدارة، وأعني أن الفلسفة السياسية السائدة هي المخطِّط والموجِّه والمحرِّك للإدارة لكي تعمل. فالمفروض أن تكون هناك في أي مجتمع أو دولة رؤية عامة وفلسفة سياسية حاكمة، تحدد الاختيارات وترسم التوجهات الفكرية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية والسياسية طبعا.

وفي ضوء هذه الرؤية والفلسفة السياسية الحاكمة، تأتي الحكومات والسلطات التنفيذية لتقوم بإدارة الحركة، واختيار الطرق الأنسب لتحقيق أهدافها الكبرى، وفق خطط زمنية محددة الأهداف والوسائل، ولذلك قلنا كثيرا من قبل إن مجتمعا بلا رؤية ونظاما بلا فلسفة سياسية هو مجتمع أعمى ونظام بلا عقل.

وأظن أن مصر قد اختارت - تحديدا منذ التسعينات اتباعا لنصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي - أن تسير بسرعة في ما يسمى «لبرلة» اقتصادها، بالخصخصة وبيع القطاع العام والإفراط في تفعيل آلية السوق وحرية العرض والطلب، وإطلاق يد القطاع الخاص ليتملك ويدير ويصدر ويستورد، على حين بدأت الدولة تخفيف قبضتها على حركة الاقتصاد، وخصوصا الصناعة الناشئة والزراعة التقليدية القديمة، مثلما بدأت التخلي عن بعض مهماتها تجاه خدمات التعليم والصحة والتشغيل والأجور والأسعار وحماية المستهلكين.

وبين يوم وليلة، تحولت مصر من دولة الرعاية الاجتماعية - التي طبقتها ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر في سنواتها الأولى والتي تخضع للهجوم الآن - إلى دولة ترفع شعار الليبرالية الاقتصادية، ولكنها تحجم عن الليبرالية الأخرى وهي الليبرالية السياسية. فوقع التناقض في أكثر من موقع، ولم تكن أزمات الخبز ومياه الشرب والري وجنون الأسعار والغلاء والاحتقان الشعبي إلا مظهرا وانعكاسا لهذا التناقض، بين ليبرالية اقتصادية منفلتة، وليبرالية سياسية محدودة!

وعلى رغم أن الوقائع تقول إن حكومة أحمد نظيف لا تتحمل وحدها مسئولية كل ما جرى - لأن الحكومة السابقة لها بقيادة عاطف عبيد هي التي أطلقت القطار بسرعة الصاروخ، من دون تمهيد سياسي اجتماعي، ومن دون استباق الأزمات بالحلول المفترضة - فإن كل ذلك يطرح سؤالا جوهريا على الجميع: ماذا لو لم يتدخل رئيس الدولة بشكل مباشر لتخفيف أزمة الخبز، ويعطي الحكومة تكليفات محددة تبدو بدهية؟ فهل كانت غائبة عن الحكومة أم أنها تتجاهلها، تحت شعار حرية العرض والطلب وآلية السوق، وليبرالية الاقتصاد، كما هو موقفها من كل ما يجري في السوق المصرية، من أسعار الحديد والاسمنت المنفلتة بلا قواعد، إلى أسعار السلع الغذائية الأساسية والبسيطة، التي شهدت ارتفاعا يصل إلى حدود 160 في المئة خلال الشهور الأخيرة، كما تقول تقارير منشورة؟

ويستتبع السؤال الأول سؤالا آخر هو ماذا لو لم تتدخل القوات المسلحة والشرطة بقدراتها الإنتاجية المتعاظمة لفك أزمة الخبز، التي عجزت الأجهزة المدنية والوزارات الحكومية المختصة عن مواجهتها، بل تركتها تتداعى؟

والإجابة معروفة عن السؤالين، إذ إن هذه الوزارات والأجهزة، تحكمها شذرات من الأفكار الليبرالية التي تؤمن بها، على حين تغيب عنها الرؤية الاجتماعية والفلسفة السياسية الحقيقية التي جاءت بها الليبرالية الحقيقية، التي نراها مطبقة في الغرب الأوروبي الأميركي، حيث مراعاة العدالة الاجتماعية والرعاية الصحية وقوانين العمل وتناسب الأجور مع الأسعار وحقوق المستهلك وشبكة الأمان والضمان الاجتماعي الواسعة، وغيرها من الإجراءات المطبقة، التي تحمي المواطن من الاحتكار والفساد والاستغلال السيئ للظروف وتقلبات السوق!

والنتيجة إن الإدارة الحكومية هذه تصورت أن مهمتها الأساسية هي الانتهاء سريعا من برنامج الخصخصة وبيع القطاع العام وأصول الدولة، من المصانع الاستراتيجية والمصارف، إلى الأراضي الشاسعة المزروعة والصحراوية تحت شعار الاستثمار، والتفريط بثروات الوطن بتعجل وبأسعار منخفضة يعرف الجميع أنها سترتفع غدا، كما هو الحال مع المخزون القليل من النفط والغاز!

وفي المقابل رفعت يديها عن حكاية الرعاية الاجتماعية، حتى إن رفعت أخيرا شعار العدالة الاجتماعية، وأطلقت آلية السوق وشهوة الاحتكار تطحن الفئات الأوسع والأكثر فقرا في مصر، فازدادت مساحة الفقر، حتى إن التقارير الدولية تقدرها بأنها بلغت نحو 48 في المئة من الشعب المصري، وهي نسبة لم تحدث من قبل، بل إنها تهدد بانفجار اجتماعي خطير.

ومما زاد الطين بلة والأزمة تعقيدا إن الذين أشرفوا على كل هذه التحولات السريعة، ويسمون أنفسهم الليبراليين الجدد، قد تشكلوا غالبا من نوعين، نوع يبدو أنه من الهواة، الذين التقطوا بعض السياسات من الليبرالية الأوروبية، من دون دراسة معمقة وجاءوا لتطبيقها على الوضع المصري، والنوع الثاني يتمثل في أصحاب الأعمال وجماعات المصالح، الذين رأوا في هذا المناخ فرصتهم الكبرى للكسب ومضاعفة الثروات وشراء القطاع العام وأصول الدولة بأبخس الأسعار، وفرض أجندتهم حتى على التشريع وصوغ القوانين التي تسهل مهمتهم!

وهكذا اتفق الطرفان المشار إليهما، واحد يريد تطبيق أفكاره المجتزئة وآخر يريد تحقيق أقصى ربح ممكن في أقصر وقت، من دون مراعاة للغالبية الساحقة من المواطنين، الذين ينحدرون بسرعة نحو الفقر والبطالة والاحتقان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بل النفسي والعصبي... وانظر وتأمل الشارع المصري وأحواله.

لم يكن غريبا إذا ان نسمي ما يجري حاليا «الليبرالية الشرسة»، وهي طبعا غير الليبرالية ذات البعد الاجتماعي، التي يطبقها مثلا حزب العمال في بريطانيا، باسم الطريق الثالث، ما بين الرأسمالية والليبرالية المتوحشة، وبين الاشتراكية والماركسية المتوارية.

ولم يكن غريبا أيضا أن يصل الاحتقان في المجتمع المصري إلى مداه الخطير، كما هو حاله اليوم. ففي ظل انفلات هذه الليبرالية الشرسة، وغياب قواعد العدالة سواء في توزيع الدخول والثروات، أو في توزيع الأعباء، وإطلاق حرية أصحاب الأعمال، ومعظمهم تجار وليسوا منتجين حقيقيين، انتفض كثير من فئات الشعب المطحون، كل يطلب بعض حقوقه، عبر التظاهرات والإضرابات والاعتصامات!

ولم يكن غريبا أن تتصادم هذه السياسات بكل عنف مع مصالح العمال والفلاحين وحياتهم، مع القضاة والصحافيين، مع أساتذة الجامعات والأطباء، مع المعلمين والمهنيين وغيرهم كثير... أي مع الشغيلة والمفكرين.

المطرقة النازلة بعنف زادت حدة الاحتقان، الاجتماعي الاقتصادي والسياسي الثقافي، ومضت روح في المجتمع تنادي بأن يأخذ كل واحد حقه بذراعه، كما يفعل أصحاب الأعمال وتلاميذ الليبرالية الشرسة.

فهل إلى خروج من سبيل؟

* خير الكلام: يقول محمد مهدي الجواهري:

نامي جياع الشعب نامي

حرستك آلهة الطعام

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 2035 - الثلثاء 01 أبريل 2008م الموافق 24 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً