يخطئ من يظن، ولو للحظة خاطفة بمقدار رمشة عين، أو يصدق بمقدار ذرة، أن أميركا في ظل حكم اليمين المسيحي الذي تتميز سلوكياته وأخلاقه وجميع أدبياته الاجتماعية بالتشدد على المستويين الديني والسياسي.
فعلى المستوى الديني، الذي تحاربه أميركا لدى العرب والمسلمين، وتمكنت من تسخير عدد كبير من الكتاب والمثقفين لسوط أنفسهم، وصب لعناتهم على الأصولية الإسلامية، مثل هؤلاء ممن ضحلت ثقافتهم وتسطحت مداركم وعجزت عن الغوص إلى أعماق التاريخ، والوقوف على ما يمكننا أن نراه مسجلا في الفصل الثاني من الصفحة 183 من كتاب «من أجل صهيون»، ما يفضح وينظر من الاقتراب من أميركا وينفر النفوس من ادعاءاتها الكاذبة ومواقفها المتناقضة. وهنا أعلن عن موقفي المحايد من قضايا استغلال الدين من جانب أميركا ومحاربته لدى الطرف الآخر، كإنسان ارتكز على المفاهيم العلمانية، المؤسسة على الجدل الديالكتيكي المبني على الأخذ والعطاء ومبني على الأفكار الشوفينية الهاربة بسبب عجزها الطبيعي إلى الميتافيزيقيا.
لا نريد أن نضيع أي جهد فكري أو زمني لمناقشة كومة السفسطائيات والانفلاتات اللسانية التي ضجت بها العبارة المقتبسة، فذلك الهذر الفكري وتفصيل المعاني لتنسجم مع غايات وأفكار وأهداف اليمين المسيحي من الوضوح بحيث لا تخفى على لبيب. ولذلك فضلنا أن نواصل بحثنا لنطلع على ما يلي: «احتل الدين مكانة رئيسية في الحياة اليومية للأمة الأميركية بكل طبقاتها واتجاهاتها على مر القرون... وفي مرحلة الثورة على الإنجليز والاستقلال كان «الآباء المؤسسون» يعبرون في خطبهم ومقولاتهم الحماسية عن مزيج متكامل من المشاعر الوطنية والدينية. ثم عندما شهدت أميركا أخطر مرحلة... عند اندلاع الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب كان كل من الطرفين يلجأ إلى الدين لتبرير موقفه... وإن رجال الكنيسة كانوا في حركة دائمة مع الجنود يعقدون جلسات الصلاة يوميا ويشرفون على مواساة الجرحى ويصلون على الموتى في ساحة المعركة.
وبعد أن استعرضنا عمق التأثير الديني في تكييف سلوك الأميركان وأخلاقهم ومواقفهم من شعوب العالم، تلك المواقف المؤسسة على أفكار خيالية مصاغة بعبارات أدبية انتقائية ناشزة اللحن على الإيقاع السمعي، وجارحة للضمير العقائدي الديني الذي كثيرا ما يعبرون عنها بافتراءات تحط من منزلة الله وتسيء إلى عظمته. مثل هذه العبارة: «اعتقاد المستوطنين الطهوريين (وهو اعتقاد مزوّر على الله)، بأنهم على علاقة تعاهدية مع الله، وبأنهم شركاء في مهمة حددها الله لهم في هذا العالم». وهكذا يحط اليمين المسيحي من منزلة الله بوضع أنفسهم مساعدين له متجاهلين أن المطلق بلا حدود والقادر على فصل ما يريد بلا عون من أحد.
وبالإضافة إلى ما أبديناه من آراء وملاحظات، ارتأينا أن نحرز بحثنا ببعض من آراء وأفكار جاءت في المسار التاريخي على لسان مستوطنين غربيين فلنقرأ معا التالي: «وكانت مظاهره، الدين، واضحة في سلوك الأميركيين، ساسة وأفرادا عاديين، في الحربين العالميتين والحرب الكورية وحرب فيتنام، لكن أثر الدين كان أكثر ما يكون وضوحا في الأحداث التي سبقت إنشاء دولة (إسرائيل)...».
ولما أن الشكوك تنتابنا بشأن التخرصات وهزال التنبؤات الدينية التي صاغها اليمين المسيحي المتطرف بشأن اليهود، هذا اليمين المسيحي لم تكن توجهاته تنطلق من معتقدات دينية مجردة بل هي حالة يتم فيها استغلال الدين لتكريس مصالح اقتصادية وهذا أمر يعزز شكوكنا حول كومة التوجهات الدينية نحو «إسرائيل»، وفي التالي ما يعزز شكوكنا، ويدحر إلى حد كبير تخرصات ونبوءات اليمين المسيحي الذي لا يتورع عن الكذب والتلفيق على الله: «فإن العودة الثانية - عودة المسيح - لا تتحقق إلا إذا كان اليهود يعيشون في (إسرائيل) المسترجعة»، والحقيقة أن ليست هناك أرض اسمها «إسرائيل»، كما ليس هناك يهود إسرائيليون بل هناك أقليات يهودية ذات جنسيات مختلفة بعدد اختلاف حكومات العالم التي يعيش اليهود في نطاقها الجغرافي ويتنقلون بجوازات سفر تلك الحكومات، وما أدل على تخبط اليمين المسيحي بشأن اليهود و «إسرائيل»، من عدم الاستقرار في التعبير.
ومع تقدمنا في البحث والاستقصاء، تبرز أمامنا الكثير من الدلائل والإثباتات التي تؤكد أن التجمع اليهودي في فلسطين ليس بتجمع شعب حول حكومة بقدر ما هو تجمع عصابات مافيا وقتلة حول زعماء مافيا متخصصين في خلق الاضطرابات، وإثارة القلاقل في أهم منطقة في العالم تمر بها مصالح الدول وتستقر فيها أهم ثلاث ديانات سماوية. وإن الكثير من معطيات التاريخ لا تشجع على الركون والأخذ بما ابتدعه أقطاب اليمين المسيحي المتطرف، وما حشده هذا اليمين من افتراءات وتنبؤات تعظيمية حول حفنة من بشر مشردين في شتى أنحاء العالم، من جنسيات لا عد لها ولا حصر، ومن أصول مبهمة تقادم عليها الزمن، وحولها بفعل التنقل والاندماج إلى أقليات تعرف بجنسيات البلدان التي يعيشون فيها، دونما أي تمييز بينهم وبين شعوب تلك البلدان، فيما الحقيقة التي يمكن أن يستخلصها أي دارس متتبع للمشكلة اليهودية التي زعزعت استقرار العالم، هي في حقيقتها الموقف العنصري المسيحي من اليهود، كما أن تجميع اليهود في فلسطين ليس إلا تحقيقا للفصل العنصري بين اليهود والمسيحيين، إذ تؤكد هذه الحقيقة المعطيات التاريخية إذ يقول المؤرخ البريطاني سيسيل روث، «أبعد المسيحيون اليهود عن النشاط العادي، وحصروهم بالنشاطات التي أدت إلى توفير مواصفات خاصة لعلاقاتهم الدولية ولقدرتها على التكييف وفطنتهم».
وما يؤكد الموقف المسيحي العنصري، وأن إقامة دولة «إسرائيل» ليست إلا حلقة في سلسلة الأحقاد المسيحية العنصرية لليهود والتضحية بهم في سبيل المصالح الاقتصادية الغربية الأميركية، وما استماتة أميركا في الدفاع عن «إسرائيل» في حقيقة إلا دفاعا عما تمثله عصابات المافيا اليهودية من حراسة وحفظ للمصالح الرأسمالية الغربية، هذه المهمة الحقيقية لما يسمى بدولة «إسرائيل»، لو انتبه لها حكام العالم العربي وأفشلوها لما كان اليوم لـ «إسرائيل» من وجود، ولكن الميّت لا يسمع نحيب أهله!
إن التجمع اليهودي في فلسطين ليس إلا بمثابة «الطلقة والضحية» وأخيرا، نقتبس العبارة التالية: «كان الصليبيون الإنجليز خصوصا غلاظا في اضطهادهم لليهود، إذ حرموهم من التمتع بثرواتهم غير الشرعية في الوقت الذي كان الجنود يحاربون من أجل طرد المسلمين من الأرض المقدسة والانتقام للصليب»، فالمستهدفون بالإبادة اليهود والمسلمون على حد سواء، وما عجز المسيحيون عن تحقيقه عبر التاريخ منذ الحروب الصليبية، فإنهم يحققونه اليوم بالتقاتل بين اليهود والفلسطينيين. وغدا ستتدخل الشعوب العربية والإسلامية ولن تقف إلى ما لا نهاية حبيسة أنظمة مهترئة عميلة متخاذلة، وهي ترى مصيرها القومي وبقاءها في خطر داهم.
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 2034 - الإثنين 31 مارس 2008م الموافق 23 ربيع الاول 1429هـ