في العام 317 هـ (929م) أقدم زعيم القرامطة أبوطاهر سليمان بن الحسن القرمطي على مهاجمة مكة المكرّمة، وقام باقتلاع الحجر الأسود من الكعبة وحمله إلى البحرين ليكون مزارا يشجّع الناس على إتيان/ حجّ «بيت هَجَر» الذي بناه أبوسعيد الجنابيّ. لن أتكلّم عن صحّة النسبة أصلا، ولا عن ضلال هذه الفكرة، وبُعْدها عن الدين الإسلاميّ، ومشابهتها لفكرة حجّ «بيت القلّيس» الذي بناه أبرهة الأشرم، ولكنّها في النهاية محاولة اجتهاديّة لإضفاء مسحة قداسة على هذه البلاد التي تخلو من المزارات الدينيّة، قياسا بما لدى الحجاز والنجف وكربلاء وبقيّة المدن، وهو مسعى واضح لترويج السياحة الدينيّة بشكل يضاهي ما لدى البلدان الأخرى. الحجر الأسود الذي مكث عند القرامطة (فرع من الإسماعيليّة) 22 عاما تقريبا على ما قيل حتى ردّوه العام 339 هـ (1950) أدخل ذكر «إقليم البحرين» من الباب الواسع، وصار يتردّد على ألسنة المؤرّخين أكثر فأكثر.
مناسبة هذا الكلام هو ما تناقلته وكالة أنباء الإمارات (وام) عن قدوم نحو ثلاثين ألفا من طائفة «البُهْرة» (فرع آخر من الإسماعيليّة) من شتى دول العالم للمشاركة في حفل أقيم في المسجد الجديد خلف النادي الأهلي بدبي بحضور زعيم الطائفة محمد برهان الدين قبل فترة من الزمن.
الزعيم الديني الذي حضر دبي لإحياء ذكرى عاشوراء حلّ ضيفا على حكومة دبي، وقد زار مدير التشريفات في دبي خليفة سعيد سليمان نفسه موقع الاحتفال، واطّلع على الترتيبات الخاصة باستقبال زعيم الطائفة وسط أتباعه، فيما كان في استقبال الزعيم الديني بالمطار الدولي مدير دائرة إعلام دبي الشيخ حشر بن مكتوم آل مكتوم ومدير عام دائرة الأوقاف والشئون الإسلامية في دبي حمد الشيباني وعدد من أعيان البلاد والمسئولين.
وبعد وصول زعيم الطائفة بث موقع ولي عهد دبي الرسمي على الإنترنت خبرا مفاده أن إبراهيم برهان الدين «تقدم بشكره إلى سمو الشيخ محمد ولي عهد دبي لتخصيصه قطعة أرض لبناء مسجد جديد للطائفة في القصيص، ولإرسال طائرة خاصة له للقدوم إلى دبي، كما شكر برهان ولي عهد دبي على تسهيل إجراءات الحصول على التأشيرات لأبناء الطائفة كافة، الذين قدموا إلى الإمارة لحضور مجلس الوعظ فيها». هذه الحفاوة البالغة أثارت مخاوف البعض، ودفعت إلى نشر أخبار في الإنترنت أقرب ما تكون إلى التهكّم تتحدّث عن خلوّ مدينة دبي من العاهرات بعد حبسهنّ، وامتلائها في المقابل بـ «حجيج البُهرة»، ووصل الأمر إلى القول إن هناك خططا يعتزم البهرة تنفيذها بما يملكونه من سيولة ماليّة وافرة تجعلهم موضع ترحيب بهم أينما حلّوا.
غريب أن يحصل هذا في دبي التي لم تكدْ تعرف حتى الآن حجم الوجود الحقيقي لطائفة البهرة في الإمارات العربية المتحدة على وجه الدقة، ولكنها رغم ذلك استثمرت وجودهم واستضافت زعيمهم بشكل يتناسب مع مساعيها لجعل دبي مجتمعا مفتوحا بين دول الخليج، فيما البحرين تتجاهل وجود هذه الطائفة، ولا تعمل على استثمار وجودها إلا بعد أن تمّ إبرازها في الصحافة المحليّة، رغم أن البحرين مجتمع منفتح ومفتوح شعبيا ورسميا منذ الأزل في العموم الأغلب.
لا يمكن أن ننسى أن أهل البحرين عايشوا أبناء هذه الطائفة الذين كانوا يخرجون في مواكب رسميّة في السبعينيّات، ويتعامل المواطنون معهم بشكل ودود يوميّا في سوق المنامة باعتبارهم تجارا وأصحاب أعمال حرّة، بل ويحضر بعض التجار البحرينيين مجالس عزاء البهرة ومحافلهم.
البحرين مدعوّة إلى استثمار وجود هذه الطائفة بما يخدم المملكة، سواء على مستوى الانفتاح الفكريّ على طائفة من المسلمين عاشت وعانت التهميش إلى حدّ أنها أبدعت في تغليف نفسها بحجاب التقيّة يوما بعد يوم، أو على مستوى الانفتاح الاقتصادي ولاسيّما حينما ننظر إلى التسهيلات التي يلقاها سلطان البهرة أينما حلّ سواء كان في العراق أو الإمارات وحتى السعودية نفسها، فلم لا تكون البحرين أسبق وهي التي كانت أعرف بهذه الطائفة التي اختار أبناؤها البحرين لتحتضنهم، وهم في بلد لديهم مع بعض أبنائه قواسم مشتركة، ولهم فيه تاريخ. ولعمري، كيف تفوّت إحدى فرص السياحة الدينيّة في أرض مثل مملكة البحرين التي تعتبر محضنا لكثير من الأديان والمذاهب المعتدلة؟
إنّ بقايا مرويّات نقل الحجر الأسود للبحرين لاتزال قائمة شاهدا على الأفكار الساعية لترويج السياحة الدينية في بلد يزخر ببعض المقامات، صحيح أن تلك المقامات لا ترقى لمستوى آل البيت أو الصحابة الكرام، ولكنّها مقامات لبعض كبار التابعين والأولياء الصالحين الذين يمكن أن تشدّ إليهم الرّحال لو مُنحوا بعضا من التعريف، إلا أنّ الواقع يقول إن تلك المقامات التاريخيّة تعاني الإهمال والتهميش اقتصاديّا وإعلاميّا، وكأنّ أصحابها الكرام العظام الذين قادتهم قلوبهم لهذه الأرض الطيّبة المؤمنة في الزمن الغابر كان حظهم عاثرا اليوم، إذ غدوا كالحجر الأسود «المسروق» منفيّين خارج ساعة الزمن آمادا بعيدة، فأين دور وزارة العدل والشئون الإسلاميّة، وأين دور الأوقاف الجعفريّة؟ أليست العناية بالمقامات والأضرحة الدينيّة عنصرا مهمّا للسياحة الدينيّة يضاف إلى موسم عاشوراء الذين يُعرف لدى الكثيرين بـ «كربلاء الصغرى».
العدد 2030 - الخميس 27 مارس 2008م الموافق 19 ربيع الاول 1429هـ