لم يكن أهل السلطة عندنا بحاجة إلى اتخاذ قرار بمقاطعة القمة العربية في دمشق لكي يعبروا عن «اعتراضهم»، فالجعبة الدبلوماسية مليئة بخيارات عدة تستطيع تحقيق الغرض ذاته، فلا يكون تمثيل الدولة رفيع المستوى ولا تسجل الدولة على نفسها سابقة «المقاطعة»، وهو ما فعلته حكومات عربية باتت تشكل قدوة لأهل الحكم عندنا حتى لا نقول إننا نخشى أن يصبحوا لها وقودا في حساباتها وصراعاتها.
«فالمقاطعة» تعبير ممجوج في قاموس» الاعتدال» العربي، وكثيرا ما كان يتهم أصحابه «بالسلبية» و «المزايدة» والنقص في «النضج» السياسي إلى درجة أن «مقاطعة» العدو الصهيوني ذاتها باتت موضع مراجعة أو إعادة نظر حسب المنطق الرائج لدى أهل «الاعتدال» العربي.
لكن ما يبدو أن بعض أهل السلطة الأكثر تطرفا قد نجحوا في استدراج حلفائهم إلى موقعهم أو موقفهم التاريخي الذي لا يخفي الرغبة في فك الارتباط بين لبنان وهويته العربية وكل ما يترتب عليها من التزامات، بل ان هذا البعض لم يخف أبداَ فرحه الكبير بأنه نجح في نقل «فريق لبناني كبير من موقع التمسك بالعروبة إلى موقع الانكفاء الفكري والنفسي والسياسي عن محيطه وهو انكفاء لا يتنكر عمليا لعروبة لبنان فقط، بل يتنكر أيضا لوحدة الوطن لصالح «فيدرالية» أو «كونفدرالية» يسعون إليهما مهما طال الزمن، فكيف والزمن من حولنا زمن الفدرلة والتقسيم والمحاصصات العرقية والطائفية والمذهبية.
والحكومة المطعون أصلا في ميثاقيتها وشرعيتها ودستوريتها من قبل فريق كبير من اللبنانيين لمخالفتها بندا رئيسيا من بنود الميثاق والدستور ينص على أن لا شرعية لأية سلطة خارج سلطة العيش المشترك، تعطي اليوم لمعارضيها سلاحا جديدا للطعن في ميثاقيتها وشرعيتها ودستوريتها حين تخالف بندا رئيسيا آخر من بنود الميثاق والدستور الذي يتصدر مقدمة الاثنين وينص على أن «لبنان عربي الانتماء» (وأن لبنان عضو مؤسس في جامعة الدول العربية ملتزم بمواثيقها ومؤسساتها)، وهو نص سالت دماء كثيرة حتى خرج بهذا الوضوح في اتفاق الطائف.
وقد يقول البعض ما علاقة هذا البند الدستوري بقرار سياسي يتعلق بمقاطعة قمة عربية، ولهؤلاء نقول ماذا يعني «الانتماء العربي» إذا لم يكن مجسدا في الانضواء تحت لواء جامعة الدول العربية، التي فُصلّت أساسا على قياس الحساسية اللبنانية، وإذا لم يكن مترجما في حرص على ديمومة المؤسسة الأعلى في هذه الجامعة، وهي مؤسسة القمة التي كانت وستبقى، على رغم كل الملاحظات والاعتراضات على أدائها، فوق الأشخاص والأنظمة والاعتبارات العابرة، بل أنها تبقى مستهدفة من كل الذين حاولوا، وما زالوا، إحلال نظام شرق أوسطي يقوده الكيان الصهيوني مكان النظام الإقليمي العربي وعماده التضامن العربي، كما الذين حاولوا، وما زالوا، حلّ جامعة الدول العربية ومقرها قاهرة المعّز وصلاح الدين وجمال عبد الناصر لتقوم كبديل عنها جامعة شرق أوسطية عاصمتها الفعلية في تل أبيب.
فهل ننسى مثلا أن قرارا أميركيا صريحا قد حال دون انعقاد القمة العربية على مدى عشر سنوات (1990-2000)، وإن قمما للشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد أخذت تنعقد في دول عربية (عامي 1994و 1995)، وتحضرها حكومة تل أبيب مع انبعاث مشروع بيريز الشرق أوسطي إثر مؤتمر مدريد واتفاقيات أوسلو.
وهل يمكن لنا أن ننسى أن الإدارة الأميركية سعت بكل ما تملكه من نفوذ إلى تعطيل قمم أخرى انعقدت بعد 2000، وإذ لم تنجح تماما في تعطيل القمة فقد كانت تعمد إلى خفض مستوى التمثيل فيها ثم إلى تعطيل قراراتها ومبادراتها على رغم أن الرأي العام العربي كان يرى في تلك القرارات أقل من الحد الأدنى المطلوب، ويرى في تلك «المبادرات» تنازلات غير مبررة وغير مرغوبة بل وغير مقبولة بالمقاييس الوطنية والقومية والدينية.
أما الذاكرة، والذاكرة القريبة جدا، فتفيدنا أن الإدارة الأميركية لم تخف معارضتها لانعقاد القمة العربية العتيدة، ولانعقادها في دمشق بالذات، وأن دعوتها كانت صريحة لإفشال هذه القمة أو إضعافها بل أن الإفشال كان واحدا من الأهداف الرئيسية لجولات بوش ونائبه تشيني ووزيرة خارجيته رايس في دول المنطقة.
وهذا ما يدخلنا إلى التناقض الثاني الذي يكمن في ثنايا قرار المقاطعة غير المسبوق بين شعار قامت عليه هذه السلطة منذ سنوات ثلاث وهو شعار السيادة والحرية والاستقلال، وبين الممارسة الفعلية المتمثلة بالرضوخ الصريح لقرار أميركي. فكيف تستقيم سيادة دولة واستقلالها مع مثل هذا التجاوب الحرفي مع مطلب أميركي يطال واحدة من المسلمات اللبنانية وركنا من أركان الهوية العربية له.
وبالمناسبة لقد أعاد التذكير بالمطلب الأميركي هذا أحد أركان الموالاة خلال زيارته الطويلة والمستمرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، فالمقاطعة هنا، إذا، هي انسجام كامل مع رغبة أميركية صريحة مثلما هي دعوة إلى موقف «مبدئي» صريح مقاطع للقمة لا حاجة معه إلى لف ودوران.
وهنا يقع فريق السلطة في التناقض الثالث وهو الطلاق البائن بين الإرث المعادي «للتزمت العقائدي»، و «السلبية السياسية»، الذي يقوم عليه تاريخيا خطاب هذا الفريق ومنهجه، وبين هذا الموقف «الجذري»، والتطرف «المبدئي» اللذين يكشفان في عمقهما عن ضيق أفق وارتباك رؤى وانسداد طرق أكثر مما يكشفان عن رجاحة فكر، ورحابة صدر، وثقة عامرة بالنفس والمستقبل.
وهنا يخطر بالبال سؤال آخر: ترى لو كان رفيق الحريري موجودا هل كان سيقبل بالمقاطعة التي كان يعتبرها دوما نقيض نهجه العملي والبراغماتي القائم على المقولة الفقهية الشهيرة «ما لا يدرك كله لا يترك جلّه»، بل ترى لو كان كان واحدا من الاباء «المؤسسين أو اللاحقين» كبشارة الخوري ورياض الصلح وعبد الحميد كرامي، وكفؤاد شهاب ورشيد كرامي وصائب سلام، وكشارل حلو وعبد الله اليافي وحسين العويني، وكسليمان فرنجية والصلحين تقي الدين ورشيد، وكالياس سركيس وسليم الحص، موجودا في مركز القرار هل كان يقبل أن تنحدر السياسة اللبنانية إلى مهاوي المقاطعة المرتبطة دوما بالخيبات والاحباط والمشحونة بالإيحاءات السلبية عند غالبية اللبنانيين سواء كانت المقاطعة في شأن يتصل بالسياسة الداخلية أو الخارجية. فالمقاطعة، إذا هي أيضا خروج عن المألوف اللبناني، وعن التراث اللبناني، وعن التقليد اللبناني، فهل دخلنا فعلا عصر «التثوير والتجذير» وعلى يد من ؟!
وإذا كانت مقاطعة القمة العربية مسكونة بكل هذه التناقضات المدمّرة، فمقاطعة لبنان لقمة دمشق بالذات زاخرة أيضا بالتناقضات وعامرة.
فالعلاقة بين لبنان وسورية كما علمنا التاريخ، وكما تحدثنا الجغرافيا، وكما تنبئنا المصالح والروابط، هي من الضرورات الحيوية للبلدين، أمنا واقتصادا وثقافة واجتماعا، بحيث لا ينبغي أن تؤثر بينهما أي لحظات عابرة مهما تكاثرت فيها الأخطاء، وحتى الخطايا.
وتصحيح العلاقة هذه، كما هي العلاقات بين اللبنانيين انفسهم، يكون من داخل العلاقة لا بالخروج عنها، ويجري عبر تطوير العلاقة لا تدميرها، ومن خلال بنائها على قاعدة التعاون والتكافؤ والاحترام المتبادل لا عبر الغوص في أحوال التبعية أو العداء التي أجاد بعض ساستنا في الانتقال بينهما من دون رادع أو وازع.
وما دام حديثنا في الميثاق والدستور، وما دام الطائف الرابط الذي يجمعنا جميعا حتى الآن، فوثيقة الوفاق الوطني في الطائف، ومن بعدها الدستور، قد منحا للعلاقات اللبنانية - السورية مساحة واسعة، لم يفرداها لعلاقة لبنان بأي بلد آخر.
بل أن الحجم الذي أعطاه اتفاق الطائف لباب العلاقات اللبنانية - السورية يفوق حجم الكثير من الأبواب الاخرى، بل أن هذا الاتفاق، ولإنعاش ذاكرة بعض المتمسكين بحرفيته، قد نص بوضوح على وجود مجلس أعلى يضم الرؤساء في البلدين كما نص على بقاء قوات سورية في البقاع من أجل حماية خاصرة سورية الاستراتيجية من أي عدوان إسرائيلي، وهو عدوان إذا وقع هذه المرة لن يترك «الممر البقاعي» إلى طريق دمشق- بيروت آمنا، وسيحاول تكرار ما فعله العام 1982 قبل أن يوقفه الجيش السوري في معركتي السلطان يعقوب وبيادر العدس الشهيرتين في البقاع الغربي.
فلماذا التمسك بالهدنة مع العدو، بذريعة انها وردت في الطائف، والدعوة إلى القطع مع سورية على رغم كل ما ورد في الطائف.
إن العداء لسورية هو خروج عن الميثاق وعن الدستور معا، ولا يكفي لاتهامات سياسية غير موثقة قضائيا ضد دمشق في قضايا الاغتيالات والتفجيرات أن تكون سببا في إقامة السدود والحواجز بين بلدين شقيقين، وبين شعبين تجمعهما أقوى الروابط والمصالح، وهي روابط ومصالح تحدث عنها أيضا البيان الوزاري للحكومة الحالية، فيما أكد رئيسها فؤاد السنيورة في غير مرة، على «ضرورة فصل العلاقة بين سورية عن مجريات التحقيق الدولي والمحكمة» وكلاهما باتا في عهدة «المجتمع الدولي» الذي ينبغي أن نتذكر دائما أن بعض أركانه، وفي زلة لسان، قد ربط بين «تسريع المحكمة وتمويلها» من جهة وبين تعامل دمشق مع الأزمة اللبنانية من جهة ثانية، ليفتح المجال أمام الكثير من الشكوك والتساؤلات. وهذا التأكيد نفسه اعتمدته كذلك هيئة الحوار الوطني في واحد من القرارات التي أجمعت عليها.
إقرأ أيضا لـ "معن بشور"العدد 2030 - الخميس 27 مارس 2008م الموافق 19 ربيع الاول 1429هـ