لا ريب أن ثمة عوامل عدة ومتداخلة دفعت اليسار العربي إلى التغاضي عن ممارسات الأنظمة الاستبدادية، فضلا عن ذعرهم الشديد من وصول الأصوليات المكفّرة للجميع إلى مراكز سلطة القرار، إضافة إلى مبالغتهم في الرهان على الدور التاريخي للرأسمالية العالمية من خلال إدماج الشرق العربي في منظومة الحداثة وما بعدها.
في هذا الصدد، يمكن التطرق إلى العشرات من العوامل الأخرى المتشابكة والمعقدة إضافة لما سبق ذكره، بَيْد أن من ناحيتنا سنركز على نقطة مهمة يمكننا من مركزها الانطلاق في سياقات التحليل، ألا وهي إن بعض قوى اليسار العربي تعاني ما تعاني من خلل في تكويناتها التنظيمية؛ مما انعكس على عجزها عن اجتراح مشروع سياسي - ديمقراطي يستند إلى وعي جماهيري يمكّنه من ولادة نهوض بديل وخيار واقعي لشعوب المنطقة العربية، ذلك تماما ما نوه إليه الباحث عبدالإله بلقزيز وهو يتفحص التجربة الحزبية المغربية («الحزبية في المغرب بين النقد والعدمية السياسية» في صحيفة «الخليج» الإماراتية في 5 نوفبمر/ تشرين الثاني 2007) حينما أشار إلى عجزها على الرغم من تاريخها العريق الذي يفترض أنه خلف تقاليد نشاطها الحزبي الذي ترسخ وتوطد على صعيد الواقع، وخصوصا مع حجم التضحيات والأثمان التي قدمها من الشهداء والمنفيين والمعتقلين في ظل الاهتزازات العنيفة التي اعترت مجتمعاتنا العربية.
تبعية للأممية
ولعلنا بالعودة أدراجنا إلى الجذور التاريخية لهذه الظاهرة ومن خلال رصد نشأة بعض هذه القوى سنلاحظ خضوع غالبيتها على الدوام لاتجاهات الأممية. فالمؤلف اللبناني شوكت اشتي من طرفه يخلص في دراسته «الشيوعيون والكتائب: تجربة التربية الحزبية في لبنان، مؤسسة الانتشار العربي، 1997» إلى أن «الأممية أثرت كثيرا في مسيرة تشكل الحزب الشيوعي اللبناني» ولو تطرقنا إليه على أنه نموذج من نماذج قوى اليسار، فهو «تميز منذ نشأته بتنوع الأقليات العرقية (يهود وأرمن) والدينية (مسيحين) أو عالمين (ماسونيين)، وبالتالي فالأحزاب الشيوعية - نقلا عن جان كولان - غالبا ما كانت تعبيرا عن رغبة «أقلية من الأقليات»، في الوقت الذي أشارت الكثير من المصادر إلى المغالطات في تضخيم دور الأقليات، ومع ذلك بقيت أسئلة كثيرة مثار جدل عن طبيعة دورها في هذه الأحزاب؟ وعن إذا ما اقتصر على الاتجاه المعلن من دون خلفيات اجتماعية ومبررات سياسية وأبعاد تاريخية أم تخطته لمآرب أخرى واتجاهات مغايرة؟
هكذا يتساءل اشتي مضيفا أن «هاجس الحداثة في سائر جوانبها كان القاسم المشترك بين مطالب الذين شكلوا روافد تأسيس الحزب من مثقفين وأقليات وعمال، وهو ما يفسر انتشاره بين الأقليات الطائفية والعنصرية، إلى أنه تعبير عن سخط الأقلية على استئثار الأغلبية بالحكم، إذ اعتقدت الأقليات أن تدمير الركائز الدينية سيفسح أمامها مجالات أعظم للمشاركة في إدارة البلاد». ويتوصل أيضا إلى وجود أثر صهيوني سلبي متعدد الوجوه على صعيد حياة الحزب الداخلية والسياسية؛ مما أثر على انتشاره وتوسيع قواعده، كما ساهم في عزلته سياسيا وجماهيريا، ولاسيما مع بروز القضية الفلسطينية واتخاذها موقع الصدارة في مهمات حركة التحرر العربية، وهو ما يفسر المواقف غير الموضوعية للحزبين الشيوعيين اللبناني والسوري وغيرهما، من القضايا القومية عموما والقضية الفلسطينية خصوصا، حتى بدأت مرحلة المراجعات النقدية.
اختلالات تنظيمية
إلحاقا بما سبق، تميزت تنظيمات بعض قوى اليسار بمظاهر وسلوكات ومواقف تناولها المحللون بالفحص والدراسة، من بينها مظاهر الترف والارتياح المالي بسبب علاقتها مع منظومة القوى الاشتراكية والأممية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي. يستعرض اشتي في هذا الصدد علاقة الحزب الشيوعي اللبناني بالحزب الشيوعي الفرنسي بعد فوز الجبهة الشعبية الفرنسية في الانتخابات ومشاركتهم في السلطة العام 1936، وهي العلاقة التي أثرت - في رأيه - على موقف الحزب تجاه قضية سلخ لواء الاسكندرون. فهذا النوع من العلاقة - كما يشير - قد تميز بالتبعية لفرنسا المنتدبة وترك بصماته السلبية على الحزب وسياسته، وتحول ذلك النمط من العلاقة مباشرة إلى الاتحاد السوفياتي مع مطلع الأربعينيات وبقي نموذجه حاضرا في الفكر والسلوك والدعاية الحزبية، وهو السلوك ذاته الذي تقمصته غالبية الأحزاب التقليدية الشيوعية، حيث انتظار توجيهات المركز (الاتحاد السوفياتي)، والالتزام بتعليماته والدفاع عن سياسته وتبرير أخطائه والاقتداء به والتماثل معه من دون إبداء الملاحظات الجدية أو الانتقادات الموضوعية؛ مما أثقل من وطأة الجانب السلبي على تلك الأحزاب وخلف خللا في مواقفها القومية.
إذا هناك ضعفٌ في ارتباط بعضها بالقضايا القومية ومنذ نشأتها التاريخية تسبب به تأثرها بالتوجه الأممي والانسياق لسياسة مراكز النفوذ الخارجية التي خضعت لها تلك الأحزاب؛ مما أدى بصورة أو أخرى إلى عدم استيعابها جوهر القضايا القومية وطبيعتها خالقا بذلك عجزا لديها على مستوى التحليل الموضوعي للواقع العربي، وبالتالي قصورا في قدرتها على التعاطي الصحيح مع مشكلاته وحاجاته، فباتت مغتربة عن محيطها وساحة نشاطها.
هيمنة الرموز القيادية
وإذا ما نظرنا بعمق إلى التكوين التنظيمي الذي تتوصل إليه الدراسة السابقة لبعض قوى اليسار العربي عبر مسارها التاريخي يمكننا ملاحظة تميزها بسلطة الشخص وهيمنة الرموز القيادية. إذ تمتد قيادة بعضها لأكثر من عشرين سنة كما حدث مع فرج الله الحلو (1933-1959)، و45 سنة لمصطفى العريس (1936-1981). فهذه الهيمنة - من وجهة نظر المحللين - تعد مؤشرا واضحا وعلامة بارزة على وجود خلل تنظيمي حتى إن تحصن بمبررات نظرية وحجج تنظيمية، وهي ذات مدلولات سياسية ومضامين تربوية انعكست سلبا على نشاط التنظيم السياسي وكادره ومواقفه تجاه قضايا الأمة، تضاف إلى هذا الجانب سمة السرية التي لازمت نشاط غالبيتها؛ بسبب ظروف القمع والاستبداد، حتى في ظروف النشاط العلني. فاعتماد العقيدة العلنية والتنظيم السري كما يفيد اشتي قد ترك آثارا على التربية الحزبية السياسية.
من جهة متصلة، غابت أسس الماركسية - اللينينية بصفتها فلسفة اعتنقتها بعض تلك القوى ومن دون التفحص والدرس العميق لها ومراعاة التكوين المجتمعي وثقافته السائدة واتجاهاته الدينية. فالإطار الفكري اتسم منذ بداياته بالنزعة الاشتراكية العمومية الطوباوية والرومانسية أكثر منها إلى المفهوم الماركسي - اللينيني؛ مما جعل الفكر في أوساط بعضها غير واضح المعالم أو المقاصد، فانعدمت الدقة في تحديداته ومفاهيمه ومنهجيته وقراءته الواقع الاجتماعي المعاش. وهذا الخلل راكم سلسلة من الأخطاء والظواهر المرضية للسياسات العامة لهذه القوى، حيث اتخذت الماركسية اللينينة موجها نظريا متكاملا يقدم كل الحلول الموضوعية لأزمات المجتمع العربي ومشكلاته من دون النظر إلى خصوصية تكوينيه الديني والثقافي وحجم المتغيرات التي يمر بها. فتم تغليف ذلك الإطار الفكري بالهالة والقداسة إلى المستوى الذي أفقد النظرية الكثير من صدقيتها وموضوعيتها وجعلها مجرد نصوص جامدة صالحة لكل زمان ومكان، فخلف أبعادا سلبية على القوى ونشاط أعضائها السياسي والتربوي وعلاقتهم بالجماهير.
هل هذا كل ما في الأمر؟ حتما لا. فهناك المزيد المتعلق بالتربية الحزبية والبيروقراطية والرهانات التي سنتعرض لأبرز مظاهرها لاحقا
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 2027 - الإثنين 24 مارس 2008م الموافق 16 ربيع الاول 1429هـ