الأوصاف التي وردت في بيان نائب رئيس الجمهورية العراقي طارق الهاشمي الذي صدر بمناسبة الذكرى الخامسة لبدء الغزو الأميركي كافية جزئيا للتعرف على مصير بلد تعرض للاحتلال بذريعة انقاذه من نظام مستبد. فالهاشمي وصف نتائج التغيير بالمؤلمة والمؤسفة. وقال عن مشاهد البؤس بأنها محزنة وكارثية. المواطن «يشعر بالإحباط بعد كلّ هذه السنوات؛ لأننا فشلنا في تقديم النموذج الذي وعدنا الناس به». وطالب الهاشمي بإصلاح جذري و«عدم الاكتفاء بإصلاحات تجميلية».
كلام الهاشمي اكتفى بالوصف ولم يتقدّم خطوة لإعادة قراءة المشهد المأسوي من منظار نقدي يرى التداعيات موصولة بالأسباب التي دفعت العراق إلى الانهيار والتفكك الأهلي والتنازع «القبلي» لنهب غنيمة. فالوصف لا يكفي ولكنه يرتدي أهمية خاصة؛ لأنّه صدر عن طرف مستفيد من التغيير الفوقي الذي أقدمت عليه قوات الاحتلال. والتغيير الذي وصفه الهاشمي بالمؤلم والمؤسف كان لا يحتاج إلى شهادة من الداخل ولكن الشهادة التي جاءت «من أهلها» تقدم إضافة نوعية للإطلالة على كارثة بلاد الرافدين. فهذه النتائج التي أسفر عنها الاحتلال كانت أصلا متوقعة منذ الغزو ولم تكن بحاجة إلى خمس سنوات من الانتظار للتعرف إليها ميدانيا.
التغيير الذي يتحدّث عنه الهاشمي ليس تغييرا. إنه تقويض خارجي اعتمد سياسة الهدم والتحطيم وسيلة لإعادة البناء. والتقويض حين يتم بالواسطة وعن طريق القصف بالصواريخ والقنابل ومن ثم الاجتياح البري المعزز بالمستشارين والخبراء ومجموعة من المتعاملين لا ينتج في النهاية سوى ذاك المشهد الذي وصفه الهاشمي بالكارثي والمحزن والمحبط.
ما حصل في العراق ليس تغييرا وإنما عملية إنزال هي أشبه بإسقاط قنبلة فراغية على «دولة مغلقة» وعلاقات أهلية تأسست على سياسة قهرية تعتمد النفاق والتكاذب وتسيطر عليها عقلية الخوف. وحين تسقط قنبلة «غير ذكية» على مجتمع منعزل على داخله ستؤدي فعلا إلى تفجيره أهليا وتكسير علاقاته وجسوره وتحطيم المشترك والقذف إلى السطح كلّ تلك الخصوصيات التي كانت مضغوطة بزجاجات.
وظيفة «القنابل الفراغية» العسكرية تشبه تلك القنابل الفراغية السياسية التي انفجرت أهليا بعد تقويض الاحتلال للدولة. والتفريغ الذي حصل في العراق فاق التصوّر وأدّى إلى نوع من البعثرة التي لا يمكن وصفها في بيان. وما ورد في بيان الهاشمي من سرد وتوصيف أقل بكثير من المشهد الكارثي الذي أسفرتْ عنه سياسة إسقاط القنابل الفراغية على بلاد الرافدين.
الهاشمي في بيانه الصادم قال نصف الحقيقة. فهو لم يتوقع أنْ يؤدّي التغيير إلى كارثة. لذلك طالب بالمصالحة والحوار لإعادة بناء ما تهدم. ولكن ما تجنب نائب رئيس الجمهورية قوله يتجاوز النصف الآخر من الحقيقة؛ لأنه يتصل بالأسباب التي أدّت إلى الإحباط وتقديم نموذج أسوأ من كلّ التصورات.
«لماذا» حصل في العراق ما حصل؟ «لماذا» تصرفت القوى العميلة والمتعاملة أو المستفيدة من الاحتلال بهذه الطريقة؟ و«لماذا» لم تكن القوى المتحالفة مع القوات الأميركية حريصة على تقديم نموذج يشكّل ذاك البديل (الوعد) الذي تصوّرت واشنطن أنها قادرة على تشييده بالقنابل والصواريخ والاقتلاع والهدم والتدمير والتقويض؟ وهل من الممكن أنْ نتوقع من هكذا أصناف من الناس أنْ تهتم ببناء المدارس والمستشفيات والمعاهد والمصانع؟
الإجابة عن أسئلة «لماذا» ربما تساعد الهاشمي على تقديم قراءة نقدية ومطالعة سياسية تتجاوز تلك الأوصاف البائسة التي سردها في بيانه. مثلا هل «العميل» أو «المتعامل» أو «المستفيد» من الاحتلال يملك الاستعداد الثقافي أو تلك الجاهزية النفسية التي تسمح التفكير بإعادة بناء دولة بديلة أو العمل على تأسيس نظام نموذجي يعطي صورة مضادة عن المرحلة السابقة؟ من صفات هذا النوع من البشر الإهمال وعدم الاكتراث بل النزوع نحو الشر المجبول بالطمع والجشع والارتزاق والتكالب وارتكاب كلّ المعصيات لتأمين حاجاته الخاصة ولو كانت على حساب جموع الناس. فمَنْ يرتكب الكبيرة لا يتردد في ارتكاب الصغائر والمشاركة في السرقة والنهب والقتل تحت ذرائع مختلفة.
صلة النتائج بالأسباب
النتائج إذا لها علاقة بالأسباب، وليست مقطوعة عنها. والمقدّمات الكبرى تؤدّي إلى نتائج صغرى ومشابهة. فإذا كانت المقدّمة سلبية ستكون النتيجة سلبية. ومَنْ يبدأ عملية التغيير بالتعامل مع «الأجنبي» فإنه لا يستطيع إلا أنْ يتابع العملية من دون تعديل إرضاء للأجنبي. فالمسألة موصولة من بداية الاحتلال إلى تلك الوقائع المرسومة ميدانيا.
ما وصفه الهاشمي في بيانه أعطى صورة عن الجانب المظلم من المشهد ولكنه لم يصف الأسباب التي أدّت حتى الآنَ إلى فشل المصالحة. وفشل المصالحة يعتبر ترجمة سياسية لتلك المشاهد الكارثية التي قذفت بها «القنابل الفراغية» من باطن الأرض إلى سطحها. وحين تفرز القنابل مواد سامة فإنّ هذه المواد ستساهم في تسميم الأجواء والفضاءات وستمنع الناس من الاجتماع والتجمّع والتصالح. فالمصالحة بحاجة إلى قوى صالحة. وهذا غير موجود في بلد وصفته التقارير الدولية بأنّ حكومته تحتل المرتبة الثالثة من جهة الأكثر فسادا في العالم. وبناء دولة نموذجية بديلة تحتاج إلى قوى بشرية طيبة مؤمنة فعلا بالتغيير ولا تتعامل مع العراق بصفته «غنيمة» وساحة للسرقة والنهب والتصفية من كلّ الجهات والأبواب.
المفاجأة التي خلص إليها الهاشمي في بيانه صحيحة وصادقة ولكنها ليست كافية قبل الإجابة عن أسئلة بسيطة. أين ذهبت ثروة العراق خلال السنوات الخمس الأخيرة؟ أين تذهب أموال العراق التي تنتجها أكثر من مليوني برميل من النفط يوميا؟ أين تودع أو إلى أين تهرب تلك الرساميل الفائضة التي تقدّر يوميا بأكثر من 200 مليون دولار؟ مَنْ يسرق متاحف العراق؟ إلى أين تهرّب تلك المنهوبات التي يتم السطو عليها يوميا من أكثر من 12 ألف موقع أثري منتشرة في بلاد الرافدين؟ مَن المسئول عن سرقة مابين 120و 170ألف تحفة أثرية من المتاحف العراقية؟
بكاء الهاشمي على الإطلال لا يكفي؛ لأنّ الجانب الآخر من الصورة المظلمة لم يكشفه. فالعراق الذي دفع حتى الآنَ أكثر من مليون شهيد من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق كيف يمكن تعويض أهله؟ والعراق الذي اضطرته «القنابل الفراغية» إلى تهجير أهله داخليا ودفعت أكثر من أربعة ملايين إلى النزوح والانتقال وتبديل الإقامة مَنْ يعيدهم إلى مناطقهم؟ والعراق الذي قوضت دولته وفرضت «الفوضى» على أكثر من مليونين للمغادرة أو طلب اللجوء إلى الخارج كيف يمكن استعادتهم؟
البكاء على «اللبن المسكوب» لن يساعد على «الإصلاح الجذري» وإعادة إنتاج دولة تقوم على المصالحة. فالمصالحة لا وظيفة لها إذا لم يسبقها محاسبة ومكاشفة وفضح الوقائع بالأرقام التي تحدد بالملموس تلك الأسباب التي أدّت إلى تشكيل صورة رهيبة وصفها الهاشمي في بيانه بكلمات «مؤلمة» و«مؤسفة» و«محزنة» و«كارثية». فالوصف صحيح ولكنه يحتاج إلى خطوة سياسية تتجاوز السرد وصولا إلى النقد وكشف الحقائق. وهذا الأمر لا يتم بتعداد مظاهر الإحباط وإنما تحديد العوامل التي أنتجت أسوأ نموذج يمكن تصوّره في كوابيس الليل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2026 - الأحد 23 مارس 2008م الموافق 15 ربيع الاول 1429هـ