العدد 2023 - الخميس 20 مارس 2008م الموافق 12 ربيع الاول 1429هـ

الترابي... الاختلاف مع الإخوان والانقلاب على الدولة

الإسلاميون ومأزق السياسة في مجال الممارسة (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بدأت منذ العام 1977 فكرة الدولة ودورها في صوغ شخصية الجماعة وأهمية القانون في تكوين المجتمع المعاصر المتصالح مع شريعته وبيئته تتكون في استراتيجية حسن الترابي السياسية. وعندما أعلن الرئيس السابق جعفر النميري في العام 1983 نيته تحويل السودان إلى دولة إسلامية أيده الترابي وساهم بصفته من رجال القانون وشارك بصفته صاحب وجهة نظر في عضوية «لجنة مراجعة القوانين» لتتماشى مع الشريعة الإسلامية، وأخذ من موقعه ذاك في لعب دور مميز إذ توافرت للمرة الأولى فرصة تحويل قناعاته الفكرية إلى مواد دستورية تعتمدها الدولة. ففي محاضرة ألقاها في الفترة المذكورة شدد الترابي على فكرة الربط بين وجدان المسلم وفطرته الدينية والسلطان ودور الدولة، فأشار بوضوح إلى ضرورة «أن تقوم في مجتمع المسلمين دولة». ولكنه أكد قصور القانون لأنه «لا يحيط إلا بعموميات» وضعف الدولة لأنها لا تستطيع «أن تفرض على المجتمع قانونا مفصلا كاملا بنظم حياتهم بكل حذافيرها». ويرد الترابي الأمر إلى مسألة أن «قانون الأرض» محدود في أثره وإحاطته وبرقابته بينما «قانون الإسلام يستند على سلطان الدولة ثم هو موصول بالوجدان المسلم وبحياة المجتمع»؛ لأن من وظائف القانون «أن يعبر عن قيم المجتمع والتعبير عن القيم نوع من التذكير». (الترابي، المسلم بين الوجدان والسلطة، دار الصحوة للنشر، لندن، من دون تاريخ، ص 5 و7 و10 و13).

يضع الترابي في المحاضرة نفسها (المسلم بين الوجدان والسلطان) ملاحظاته على الديمقراطية فيرى أنها «قاصرة على العلاقات السياسية» ولا تجدي شيئا في علاقات الناس من جيرة وتكافل وتضامن، ويرى أن الانتخابات «قليلا ما تمثل الناس تمثيلا صادقا» ويشير إلى قلة مشاركة الناس في الاقتراع ودور المال في تزييف إرادتهم، وهو يؤدي إلى تعارض أهداف الديمقراطية مع وسائلها السياسية؛ مما يقضي بضرورة وجود نظام النصح والشورى لتستقيم الأهداف وتتساوى مع الوسائل.(ص 16 و17 و18 و19).

عندما شارك الترابي في اللجنة الدستورية واشترك في صوغ قوانينها كان الخلاف قد وقع بينه وبين الإخوان المسلمين وأنهى ما عرف باسم «حزب التجمع الإسلامي» و «جبهة الميثاق الإسلامي»، وبدأ منذ منتصف السبعينات تأسيس تنظيمه المستقل ونجح في كسب معظم قواعد الإخوان وعزلهم إلى فرع صغير وضعيف لا تأثير عقائديا له في الحياة السياسية السودانية.

استفاد حسن الترابي من تجربته الإخوانية مضيفا إليها خبرته كعميد لكلية القانون ثم عضو مراجعة القوانين في نهاية عهد النميري ليؤسس فكرته من جديد على قواعد تنظيمية ودستورية ويحدد مشروعه وأهدافه ووسائل تحقيق الغايات، فأقدم على تأسيس «الجبهة الإسلامية القومية» وعقد مؤتمرها التأسيسي في الخرطوم في العام 1985 بعد اندلاع ثورة «15 رجب» وسقوط نظام جعفر النميري.

توضح وثائق المؤتمر التأسيسي (خطاب الأمين العام، دستور الجبهة، والبيان الختامي) كل ما هو غامض في استراتيجية الجبهة الإسلامية وفكر الترابي ومنهجه السياسي وتبلور موضوعة الدولة وأهمية القانون في مجتمع واسع الأرجاء وضعيف في تكامل بنيته التاريخية والثقافية.

كان الترابي قبل سقوط النميري قد تحول إلى لاعب كبير في تقرير الصياغة القانونية للدولة وبدأ رئيس النظام يتخوف منه، لذلك قرر اعتقاله لتأمين جانبه قبل أن يقوم النميري بزيارته الأخيرة إلى واشنطن بذريعة العلاج وإجراء الاتصالات مع المسئولين، وخلال وجوده في العاصمة الأميركية اندلعت الثورة الشعبية وقام الجيش بإشراف المشير عبدالرحمن سوار الذهب بانقلاب لضبط الوضع الأمني ومنع الانهيار، وهكذا بقي النميري في المنفى وخرج الترابي من السجن بطلا.

بين ثورة 1985 وانتخابات 1986 وضع الترابي استراتيجية الوصول إلى السلطة وبرزت الحساسيات بينه وبين القوى الإسلامية التقليدية (المهدية والختمية) والقوى الإسلامية السياسية الأخرى (فرع الإخوان والتيار السلفي والحلقات الصوفية) وأخذ النزاع يتبلور على بند «قوانين سبتمبر» الإسلامية إذ كانت الأحزاب الإسلامية التقليدية تطالب بإلغائها بينما تمسك الترابي بها محاولا الفصل بينها وبين الحاكم.

أدى نمو الخلاف إلى اجتماع كل القوى السياسية من إسلامية وعلمانية وإلحادية إلى الاتفاق على ترشيح خصم واحد مشترك ودعمه بغية إسقاط الترابي في المعركة الانتخابية، وسقط الترابي بفارق بسيط لكنه نجح في تسجيل أكبر مفاجأة في تاريخ السودان الحديث عندما اكتسح تنظيمه معظم المقاعد المخصصة للقوى الحديثة من اتحادات نقابية ومهنية وطلابية ومراكز المدن الرئيسية والعاصمة المركزية (الخرطوم) والعواصم الإقليمية، بينما فشل في تحقيق اختراق في الريف. واحتلت الجبهة الإسلامية المركز الثالث في البرلمان المنتخب وجاءت بعد حزب الأمة (أكبر كمية من المقاعد) وحزب الاتحاد الديمقراطي (ثاني أكبر كتلة برلمانية) وثم حزب الترابي.

باتت القوة الثالثة هي التي تقرر ميزان التحالف في ظل الخصومات التقليدية (المذهبية والطائفية والمناطقية) بين الأنصار والختمية. وتحول البرلمان السوداني في العام 1986 إلى ما يشبه توازن البرلمان التركي في العام 1996 مع فارق يتكثف في نقطتين: الأولى، أن حزب الرفاه الإسلامي التركي هو الكتلة البرلمانية الكبرى آنذاك لكنه بحاجة إلى تحالف لتشكيل الغالبية. والثانية، أن خصوم الرفاه من العلمانيين ورجال الدولة والانتهازيين والوصوليين، بينما خصوم الجبهة الإسلامية في السودان هم من الإسلاميين التقليديين ورجال المناطق الريفية والقبائل وبعض أصحاب الطرق الصوفية ومراكز القوى النافذة في المجتمع.

يذكر أن «الجبهة الإسلامية» فازت بمعظم المقاعد المخصصة للخريجين في انتخابات أبريل/ نيسان 1986 وتوزعت مقاعد البرلمان كالآتي: حزب الأمة (105 مقاعد)، حزب الاتحاد الديمقراطي (63 مقعدا) الجبهة الإسلامية (51 مقعدا) والأحزاب الجنوبية (26 مقعدا).

وبسبب هذا التوازن القلق عاش السودان أسوأ تجربة ديمقراطية عرفت الكثير من التقلبات والكثير من التحالفات اللزجة وغير الثابتة: مرة يتحالف الصادق المهدي مع الميرغني ويشكل حكومة ثنائية يعارضها الترابي في الشارع وحزبه في البرلمان، ومرة يتحالف المهدي مع الترابي وحزبه ويخرج حزب الاتحاد الديمقراطي فيقوم الأخير بتوقيع اتفاق مع جون قرنق لتوسيع رقعة التمرد في الجنوب ونقله إلى الشمال للضغط على الحكومة، ومرة يتحالف المهدي مع الطرفين؛ الجبهة الإسلامية وحزب الاتحاد الديمقراطي وتبدأ المواجهة في الجنوب لعزل تمرد قرنق واستعادة الأراضي الجديدة التي سيطر عليها في مرحلة الخلاف السابق.

وأخيرا اضطر المهدي إلى تشكيل حكومة ثنائية مع المرغني مستعينا ببعض الوجوه العلمانية في البرلمان لكسر احتكار الترابي للقوى الحديثة في الشارع، وهو أمر أدى إلى خلخلة المعادلة الداخلية وتفكك الوضع السياسي وأخيرا تقديم كل الذرائع والمبررات للجيش السوداني بالتدخل والانقلاب على التجربة الديمقراطية وحل البرلمان والأحزاب.

تعتبر فترة 1985 - 1989 مرحلة ذهبية في حياة الترابي السياسية إذ نجح خلالها في كسر الثنائية التقليدية السودانية (الأنصار والختمية) وإنتاج فريق سياسي ثالث أطلق عليه (الترابيون) وبات النظام لا يستقر إلا بتوازن تقوم قواعده على ثلاث قوى.

غير أن قوة الترابي كانت في الآن نفسه نقطة ضعف، فالتيار الإسلامي الحديث الذي قام بتأسيسه خلال العقدين الأخيرين اقتصر نفوذه على المنظمات الطالبية والاتحادات المهنية والنقابات والعاصمة المركزية والعواصم الإقليمية، بينما السودان كدولة جديدة لم تكتمل شخصيتها التاريخية يقوم تراتبها السياسي على توازن القوى التقليدية في الأرياف، والمناطق والولايات المترامية الأطراف. ولأن بنية السودان بنية قديمة فإن العلاقات التقليدية هي السائدة فيه وهي في النهاية تلعب الدور الأساس في إنتاج السلطة وسياستها.

إلى ذلك يتألف السودان من عشر مجموعات عرقية وقبلية كبيرة تنتشر بين جنوبه وشماله وشرقه وغربه وتتركز الأكثرية الساحقة في وسطه وهي أكثرية ريفية غير مدنية في غالبيتها، وهو أمر يساعد كثيرا على محاصرة أي تحول سياسي حديث سواء جاء بواسطة الانتخابات الديمقراطية أو من طريق الانقلاب العسكري.

يصف الأستاذ في معهد الدراسات الإسلامية في جامعة الخرطوم التيجاني عبدالقادر حامد في مقال «السودان وتجربة الانتقال للحكم الإسلامي» أزمة الطليعة المسلمة الحديثة في السودان بأن أساسها يعود إلى «أنها تنتمي بحكم وضعها الاجتماعي وتكوينها الثقافي إلى النخبة الفوقية العلمانية المتحكمة ذاتها التي أفرزتها المؤسسة الاستعمارية والمؤسسات الحديثة التابعة لها، ولكنها تختلف عنها بالتزامها المشروع الإسلامي» (مجلة قراءات سياسية، السنة الثانية، العدد الثالث، صيف 1992).

لاشك في أن الترابي يعلم ذلك ويدركه لكنه تصرف على عكس علومه ومعارفه لظروف وأسباب لعبت فيها الصراعات السياسية الحزبية الدور الأساسي في وقوفه مع الانقلاب العسكري (ثورة الإنقاذ)، ودعوته إلى حل تنظيم «الجبهة الإسلامية القومية»، وتشجيع عناصرها على الاندماج بالدولة والالتحاق بالجيش الشعبي كرديف عسكري للجيش السوداني. وأدى موقف الترابي المذكور إلى ردود فعل متباينة بين أنصاره إذ انقسمت الجبهة إلى تيار يوافق على الاندماج والالتحاق وتيار يرفض الأمر ويطالب بالتمايز عن الدولة والاحتفاظ بشبكة التنظيم الشعبي بداعي التحوط من المستقبل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2023 - الخميس 20 مارس 2008م الموافق 12 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً