إذا كان البيت الأبيض يرفض حتى اللحظة تحديد قيمة فاتورة التدخل العسكري في العراق، إلا أن احدى الدراسات التي أعدتها أخيرا جامعة «يال» الأميركية العريقة، قدرت الكلفة الاقتصادية لهذه الحرب بين 99و1924 بليون دولار. في الوقت عينه، أظهر استطلاع للرأي أجراه «مرصد الأسواق المالية العالمية بالتنسيق مع مؤسسة «تيالور - نيلسون -سوفريس» في باريس، ان اثنين من أصل ثلاثة من كبار رجال الأعمال والمحللين الماليين في العالم، لا يعتقدون بأن الحرب السريعة يمكن أن تؤدي إلى عودة الانطلاقة للاقتصاد الدولي. كما يرى هؤلاء أيضا بأن تدهور سعر صرف الدولار على النحو الحاصل منذ أشهر لم يصل إلى نهايته بعد.
يُفهَم من خلال تصريحات المسئولين الأميركيين، وفي طليعتهم جورج دبليو بوش بأن الحرب (واقعة لا محالة والمهم حسمها بسرعة كبيرة وبأقل عدد ممكن من الضحايا... أما فيما يتعلق بكلفتها المالية على المدى القصير، وكلفتها الاقتصادية في المدى المتوسط، فيحددها من دون أي التزام، بعض الإدارة الجمهورية الحالية بعشرات البلايين من الدولارات. لكن حتما الآن، وأمام دهشة العدد المتزايد من أعضاء الكونغرس، سيستمر الرئيس الأميركي بالتهرب أو بمعنى آخر برفض الإلتزام بأي رقم ولو تقريبي لفاتورة قراره العسكري القاضي بالتدخل في العراق. ولا الإشارة إلى النسبة التي سيساهم بها حلفاؤه المباشرين مثل البريطانيين والاستراليين. لكن من المؤكد، بحسب المعطيات المتوافرة حتى الآن لدى الكونغرس وبعض الدوائر الأوروبية، بأنها ستكون من دون أدنى شك أكبر بكثير من سابقتها في حرب الخليج الثانية في العام 1991م ذلك لأن واشنطن ستتحمل وحدها هذه المرة العبء الأكبر من هذه العملية، خصوصا بعد تجاوز مجلس الأمن والأمم المتحدة، ففي حين كانت قد سددت منذ حوالي 21 عاما ما نسبة 20 في المئة من الـ 16 بليون دولار، ستجد اليوم نفسها مضطرة لتسديد ما يزيد عن 80 في المئة من قيمة اجمالية ستكون أضعاف ما دفعته بكل تأكيد. فدول الاتحاد الأوروبي غائبة هذه المرة عن الحفل باستثناء بريطانيا وإسبانيا، هذه الأخيرة التي تنتظر مكافآتها على موقفها، مكتفية بتقديم الدعم اللوجستي المطلوب، وبالتالي فإن هذه المجموعة المؤلفة من 15 دولة تساهم في نفقات هذا الحفل. هذا ما أكده يوم الأحد الماضي «باسعال لامي» رئيس لجنة التجارة في المفوضية الأوروبية بالقول: «إذا لم يكن هناك موقف أوروبي موحد من هذه الحرب، فإنه لن يكون هنالك مطلقا أي تمويل أوروبي لها».
فبعد أن كان رئيس مستشاري بوش الاقتصاديين «لورنس ليندسي» قد أشار في شهر سبتمبر/أيلول الماضي إلى أن الرقم المتوقع لهذه الكلفة يمكن أن يتراوح بين 100 و200 بليون دولار. أكد مدير الموازنة في البيت الأبيض بعدها بثلاثة أشهر، أن نفقات التدخل في منطقة الخليج ستتراوح بين 50 و60 بليون دولارا. ما أثار سخرية أعضاء الكونغرس وسخطهم كون هذا الأخير تعمّد «إهانة ذكائهم» بحسب تعبيرهم أثناء المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع. لكن المستشار الاقتصادي للرئيس الأسبق، جيمي كارتر «ويليام نوردهوس»، وأستاذ الاقتصاد الأبرز في جامعة «يال» العريقة، «ميتشل دانييلز»، يريان بأن هذا الرقم المتأرجح بعيد جدا عن الحقيقة فالتقييم وفق الدراسة التي أعدها فريق من الباحثين الذي يشرف عليه هذا الخبير، أكدت أن كلفة حرب قصيرة الأمد، خاطفة كما يقال لا تتجاوز مدتها الأسابيع الأربعة، ستصل في أحسن حالاتها «التقشفية» إلى 99 بليون دولار، يتم جدولتها على عشر سنوات.
أما بالنسبة للنفقات العسكرية المباشرة، فمن المتوقع أن تناهز الـ 50 بليون دولار. وفيما يتعلق بكلفة الاحتلال وما سيترتب عنها من اعادة بناء الاقتصاد والبنيات التحتية العراقية التي ستدمر بفعل القصف المركز والمكثف، فإن ذلك يمكن أن يتراوح بين 30 و75 بليون دولار. في ظل هذا السيناريو التفاؤلي فإن انتصارا سريعا سيسمح لسعر برميل النفط باستعادة مستوياته السابقة مثل الولوج في مناخات النزاع، أي بحدود الـ 5 2 أو 27 دولارا. من جهة أخرى تشير الدراسة إلى أن تداعيات الحرب على ناتج الدخل القومي الاجمالي الأميركي، ستحدد بـ 17 بليون دولار تقريبا في العامين المقبلين.
انعكاسات رهيبة واهتزاز الثقة
يعتبر «ويليام نوردهوس» أن نزاعا طويل الأمد تكون فيه المنشآت النفطية العراقية بمثابة أهداف رئيسية، وكذلك امكان تأثر بعض منشآت الجوار، يمكن أن تكون له انعكاسات رهيبة على الاقتصاد الأميركي في ظل هذا السيناريو الأسوأ، من المنتظر أن تبلغ الكلفة الاجمالية لحرب العراق عندئدٍ 1924 بليون دولار، تسدد على عشر سنوات، بعد وضع اليد مباشرة على تسويق النفط العراقي وزيادة انتاجه وتحسين بنيات حقوله وتحديثها. ذلك أن سعر برميل النفط سيأخذ - والحال هذه - منحى تصاعديا مخيفا، نتيجة انهيار الإنتاج العالمي بمعدل 7 بلايين برميل يوميا، يمكن أن يتجاوز الـ 75 دولارا للبرميل طوال فترة المواجهات العسكرية لكي يعود بعدها للانخفاض التدريجي ليستقر في حدود الـ 35 دولارا بدءا من العام 2015م.
من ناحية أخرى، أعد مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية (سي. إس. آي. إس)، أحد أهم المراكز التي تضم نخبة الاستراتيجيين في استشراف التحولات الاقتصادية في الولايات المتحدة الأميركية، تصورا لسعر برميل النفط وفقا لأمد هذه الحرب. وتوصل خبراء هذه المؤسسة إلى الاستنتاج بأن السعر الوسطي يمكن أن ينتقل في أفضل الأحوال من 36 دولارا للبرميل طوال الفصل الأول لإعلان الحرب إلى الأسوأ 80 دولارا في حال انزلقت أميركا في حرب إستنزاف ضمن التقييم نفسه، يرى «آدم سيمنسكي» الخبير الاستراتيجي النفطي لدى مصرف «دويتش - بنك» الذي سبق وأعطى أرقاما ذات صدقية لكلفة حرب الخليج الثانية، بأن سعر برميل النفط بحدود الـ 40 دولارا يكفي لشل الاقتصاد العالمي المرهق. أما في حال وصل إلى 80 دولارا، فإن اقتصادات الدول الصناعية السبع ستقع عندئذٍ في الهاوية التي لا يبدو أن لها قعر في ظل المعطيات الضبابية الحالية.
ويسحب هذا السيناريو التشاؤمي نفسه على تقديرات نسب نمو اقتصادات الدول الصناعية فقد اضطر خبراء صندوق النقد الدولي إلى اعادة النظر في تقديراتهم المعلنة في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لهذا النمو والذي حددته في حينه بـ 2,6 في المئة متجنية الخوض في تفاصيله مجددا عشية الحرب. إلا أن أحد هؤلاء الخبراء، سرب معلومات بهذا الشأن مفادها أنه بات على جميع المعنيين الإدراك بضرورة تقسيم هذا المعدل على اثنين، إذا ما أرادوا بالفعل مواجهة الحقيقة. بناء على هذا التقييم، أضحى من غير المتوقع، بأية حال من الأحوال سواء أكانت الحرب خاطفة أم لا، أن يتجاوز معدل النمو الـ 1,3 في المئة للعام 2003 ليستمر حتى نهاية الفصل الأول من العام 2004م. كما وينعكس هذا السيناريو الأسوأ بدوره على البورصات العالمية على رغم بعض «الحشرجات» التي وصلت في الأيام الثلاثة الماضية وأدت إلى ارتفاع مفاجئ لمؤشراتها؟ الشيء الذي لن يذهب بعيدا حسب رأي كبريات شركات الوساطة المالية العالمية. على أية حال، تجدر الاشارة إلى أن نسبة معسكر المتفائلين بقفزة المؤشرات في الأسواق العالمية المالية قد تراجعت من 70 في المئة في شهر سبتمبر/أيلول 2002م إلى 53 في المئة بنهاية شهر ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه لتنحدر إلى 43 في المئة في الخامس عشر من شهر مارس/آذار الماضي، وذلك على رغم الحملات التفاؤلية التي اضطلعت بها بعض الأوساط، إثر التحذير الأخير الذي أطلقه الرئيس الأميركي حيال صدام حسين.
وتتناقل مصارف الأعمال الأوروبية بحذر شديد وبسرية نسبية، المعلومات التي تفيد بأن الخسائر التي لحقت باقتصادات الدول الغربية، من إفلاسات لمئات الشركات وانهيار أسعار الأسهم والتسريحات الجماعية، وتباطؤ الاستهلاك وغيرها قد كلفت حتى الآن ما يزيد عن عشرة آلاف بليون دولار، والحبل مازال على ما يبدو على الجرار.
وتخشى الدوائر المالية العالمية، وكذلك المحللون الاقتصاديون تأثيرات الأنباء السيئة التي ترافق يوميا صدور مؤشرات الاقتصاد الكلي، وتراكم المشكلات الاجتماعية التي يصعب استيعابها في مرحلة كهذه. ولا يرى هؤلاء أفقا في المدى المنظور على رغم تسويق الآمال عن انطلاقة اقتصادية حتمية بمجرد إزاحة النظام القائم في العراق. تخوفات مبررة مدعمة بالوقائع، إذا أخذ في الاعتبار لجوء المصارف المركزية لاستخدام الطلقة الأخيرة التي بحوزتها والمتمثلة في خفض أسعار الفوائد أملا بتصحيح جزء عن الاختلالات التي بدأت تظهر بحدة في الموازين الاقتصادية. هذا على الأقل ما أقرَّ به أحد مسئولي الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي).
تضارب الآراء
من أغسطس/آب 1991 إلى آذار/مارس 2003م، تكون قد مضت ثلاث عشرة سنة لكن العالم يستعد مجددا لمواكبة وتيرة الحرب في العراق. ففي حرب الخليج الثانية كانت هنالك أربع انعكاسات رئيسة وفورية: تضاعف سعر برميل النفط الذي تجاوز مؤقتا عتبة الـ 40 دولارا، هذا الدولار الذي انخفض سعر صرفه بحدة، كذلك، أسعار الأسهم التي شهدت بدورها تدهورا، وأخيرا فقدان الثقة لدى المستهلكين والشركات على السواء. لقد كانت هذه الظواهر عابرة نظرا إلى قصر المدة فبمجرد انتهاء العمليات العسكرية وتحرير الكويت استعادت جميع هذه العناصر الأربعة مستويات ما قبل الحرب. لكن هذا لم يمنع من دخول اقتصادات دول الخليج في تباطؤ شديد، لحق به الاقتصاد الأميركي ومن ثم الاقتصاد العالمي. ما يعني أن نهاية النزاع لن يقضي بالضرورة على الاختلالات التي يحملها في طياته هذا الاقتصاد. لذا فإن استعادة نفسه السيناريو اليوم مسألة غير مستبعدة، فالخلل الذي يضرب الحسابات الجارية الأميركية وصل إلى درجة جد مقلقة في حين أن ألمانيا دخلت هي الأخرى في دوّامة يصعب الخروج منها في المدى القصير، واليابان، حليفة واشنطن لم تخرج بعد من أزمتها المالية والاقتصادية.
إذا كان بعض المحللين لا يخشى هبوط أسعار النفط كما يتوقع بعض «المغالين»، إلا أنهم لا يترددون عن اظهار مخاوفهم لناحية استمرار هبوط الدولار؛ لأن ضغط الحرب على عجز الموازنة الأميركية سينعكس سلبا وحتما على العملة الأميركية فكلفة صيانة وتأخير القوات العسكرية المتمركزة في منطقة الخليج تكفي وحدها لزيادة هذا العجز بعدة ملايين من الدولارات. هذا ما أشارت إليه احدى الدراسات التي أعدها معهد «برودكينغز».
من جهة أخرى يرى بعض الخبراء أن التباطؤ الذي تشهده اقتصادات أوروبا والولايات المتحدة الأميركية مرتبط بالدرجة الأولى بالدَين المفرط للشركات التي يتراجع أداؤها شهرا بعد آخر. لذا، فتحميل الأزمة العراقية مسئولية ذلك، خطأ، اضافة إلى كونه تهرب من مواجهة الواقع. بناء عليه، فإن تعقيد الأوضاع في الأسابيع والأشهر المقبلة من شأنه أن يدفع بهذه الشركات لخفض استثماراتها والتراجع عن خططها الاستيعابية للوظائف. ما يزيد في الطين بلة. ويؤكد خبراء بروكسيل، أن النزاع في العراق سيترك حتما آثارا سلبية على منطقة «اليورو». بسبب انخفاض سعر صرف الدولار من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة المصاعب التي ستجدها الشركات للتوصل إلى مستويات على مستوى الاصلاحات الأساسية. هذا ما ستصادفه حتما قمة الدول الصناعية السبع التي ستعقد في شهر حزيران/ يونيو في مدينة اييان الفرنسية. من الآن حتى ذلك التاريخ، يمكن أن يصاب الذين يراهنون عن انطلاقة اقتصادية تلي الضربة الأميركية ضد العراق، خيبات أمل كبيرة
العدد 202 - الأربعاء 26 مارس 2003م الموافق 22 محرم 1424هـ