مرة أخرى كانتْ إيران على موعد مع صناديق الاقتراع، و مرة أخرى سيبدأ الكثير من المحللين السياسيين سواء أكانوا من المحبين لإيران أوالمبغضين لها بالتحليق بعيدا في تفسير وتحليل نتائج هذه الانتخابات، وأثرها على مطبخ صناعة القرار الإيراني، وغالبا ما ستكون المبالغة هي سيّدة الموقف، ذلك لأنّ غالبية المتابعين لهذا الشأن بالذات والشأن الإيراني على العموم يَجهلون آليات صياغة و صناعة الرأي العام الإيراني، فضلا عن آليات صناعة القرار فيه!
فإذا كان صحيحا أنّ الناخب الإيراني اختار مَنْ اختار وفي الغالب وجوها جديدة ليخلطها مع القديم المعتمد لتمثله في مواقع السلطة التشريعية، وأنّ خريطة البرلمان الجديد ستكون لها نكهة خاصة جديدة تختلف عن سابقاتها، كما عوّدنا الناخب الإيراني الذي غالبا ما يحب «التهديف في الدقيقة تسعين» كما يقول المثل هنا !
إلا أنّ هذا الأخير يعرف تماما وأكثر من غيره بانّ صناعة الرأي العام في بلاده كما صناعة القرار، فضلا عن السياسات الكلية والعامّة، إنما تتشكل في مكان آخر بالأساس!
هل هذا يعني أنّ مجلس الشورى الإسلامي ركن ليس مهما، في هذا السياق؟!
أو هل يعني هذا أنّ الانتخابات في إيران لا تغير شيئا في «صيرورة» الرأي العام أو في «صيرورة» صناعة القرار؟!
طبعا الجواب هو: كلا، خصوصا عند مَنْ يعرف إيران وأهمية الانتخابات فيها وكيف أنها أصبحت جزءا من عملية الحراك السياسي والفكري العام الذي لا يهدأ منذ ثلاثة عقود، ولا يبدو أنه بصدد الهدوء والاستقرار كثيرا في القريب العاجل، وهذا هو بيت القصيد فيما نحن بصدد الحديث عنه!
في عهد الرئيس السابق محمد خاتمي راجت مقولة ظريفة لدى بعض «الخبثاء» والمشاغبين ممن كانوا محسوبينَ على معسكر الإصلاحيين مفادها أنّ جمهورهم - وكان وقتها واسعا - غالبا ما كان يسهر في الليل على أدبيات الإصلاح منتشيا بها، لكنه ما أن ينهض صباحا إلا و يرى نفسه مضطرا للتعامل والتعاطي مع خريطة الواقع المعيشية «المحافظة» بكلّ تفصيلاتها وتضاريسها!
وكانت وقتها السلطتان التشريعية كما التنفيذية في قبضة الإصلاحيين !
وإذا كانت الأمثال كما قالت العرب قديما «تُضرب ولا تُقاس» فإنني سأحاول هنا أنّ أقلّد هؤلاء «الخبثاء» من المحللين فاستعير تشبيها استعمله أحدُ المتابعين للثورة الإيرانية و هي تتشكّل في نهاية السبعينات عندما كتب مقالا توصيفيا لما كان يَحصل على الأرض في إيران لامس كثيرا حقيقة ما كان يتبلور آنذاك من تحوّلات غير منظورة وذلك في مقال تحت عنوان: «مجتمعان تحت سقف واحد»!
وأنا أزعم بدوري والله أعلم، بأن ثمة مجتمعا آخر غير الذي يروّج له المتطرفون من «المحافظين» أو المتطرفون من «الإصلاحيين» يتشكّل في مكان ما في النسيج المجتمعي الإيراني، لا يشبه كثيرا ما يَحلم به أو يروّج له هذان الطيفان اللذان عادة ما تعلو أصواتهما في كل انتخابات. وغالبا ما تكون مصحوبة أو مترافقة مع صمم آذان البعض أو عمى أعينهم عن سماع الصوت الآخر أو رؤية الحقائق الجديدة، والتي عادة ما تتبلور أو تتشكّل في مكان آخر غير مسرح العمليات الانتخابية، والتي بدورها لا تظهر في صناديق الاقتراع سريعا كما يتمنى الحالمون والمتبجّحون، ما يدفعني إلى الإدعاء والزعم اننا أمام ظاهرة جديدة من حالة «مجتمعان تحت سقف واحد» وإن كانت من نوع جديد هذه المرة!
وثنائية المجتمعين الجديدة برأيي والتي يفترض بها أن تزاحم ثنائية المحافظين والإصلاحيين التقليدية ستتشكل في الغالب على قاعدة بروز تيار فكري جديد يبحث عن طريق لانتصار العقل الجمعي الإيراني والذي بدأ بالتشكل ليس فقط في التضاريس المجتمعية المستجدة و غير المرئية للرموز والتشكيلات الحزبية الغارقة في أحلامها الوردية والنرجسية، بل وفي أكثر من موقع من مواقع صناعة الرأي العام التقليدية المعروفة؛ إي في البازار والجامعة والحوزة الدينية.
القدر المتيّقن أنها لا تتشكل ولا تتبلور في أروقة الأحزاب أو الأجنحة أو الفصائل التي عرفتها إيران حديثا والتي غالبا ما تنبت كالفطريات مع كلّ حكومة جديدة وعند كلّ مهرجان انتخابي جديد، ولا تعيش إلا على فتات تلك الحكومة أو فتات الدولة الحديثة بشكل عام!
انه خليط من مزاج الاعتدال والعقلانية والتخطيط الواعي ومواكبة التحوّلات، مع مزاج الإصرار على الخصوصية القومية والدينية الإيرانية التي لا تشبه إلا إيران الجمهورية الإسلامية الثورية التي لا تعرف الهدوء والاستقرار ما دام العالم مُضطربا من حولها كما هو حاله اليوم !
والبرلمان المرتقب بالتالي لن يكون «محافظا» ولا «إصلاحيا» بالمعنى التقليدي الحزبي المعروف ولا يكون خليطا كميا بين الاثنين، بل سيكون شيئا آخر تماما، هو لا هذا ولا ذاك اذا، باعتبار أن عهد الاصطفاف المذكور قد تغيّر أصلا في مكان آخر وفي زمن آخر، رغم إرادة المعسكرين التقليديين !
هو قد تغيّر برأيي منذ اللحظة التي قرر فيها الرجل الأوّل في البلاد، «التضحية» بكلّ صداقاته التقليدية بل وقراءاته التقليدية للاحداث والوقائع الداخلية والإقليمية والدولية لصالح قراءة مستجدة تفيد بانّ اللحظة التاريخية التي تمرّ بها إيران باتت أمام منعطف خطير وحاد يتطلب اتخاذ سياسة «حافة الهاوية» كما سميتها يوما، وذلك من أجل إنقاذ المشروع الإيراني الإسلامي برمته وليس إيران الدولة الحديثة الولادة فقط!
ما يحدث اليوم على هامش الانتخابات الحالية وما سيحدث أيضا على هامش الانتخابات الرئاسية المقبلة هو برأيي امتداد طبيعي لانتخابات الرئاسة السابقة، والتي تم خلالها «التضحية» بالطبقة السياسية التقليدية برمتها لصالح ظاهرة أحمدي نجاد والذي قلتُ عنه وقتها انه» جيئ به» لخدمة المشروع الإيراني الإسلامي وليس إدارة دفة الحكومة فقط!
وعليه أقول إنّ الرابح الأوّل في هذه الانتخابات لن يكون إلا المرشد مرة أخرى وليس أحمدي نجاد أو أيّ طيف من أطياف ما يسمى بالمحافظين وإن كان أحمدي نجاد سيغرف من هذا الحساب الرابح، كما أنّ الاصطفاف لن يكون بعد اليوم بين محافظين وإصلاحيين، بقدر ما سيكون بين دعاة إنجاح المشروع الإيراني الإسلامي في المنطقة بأيّ ثمن كان وبين دعاة انقاذ «الجمهورية» في حدود الداخل الإيراني على حساب أيّ دور إيراني إسلامي إقليمي أو دولي كان!
بكلمة أخرى بين مَنْ يرى الصراع حول ضرورة قيامة إيران القومية والدينية الخادمة للمشروع الثوري الذي يستهدف التصدّي للدور الأميركي الهيمني المدعوم إسرائيليا، وبين مَنْ يرى ضرورة حصر الصراع في دائرة انقاذ ما تبقى من الجمهورية ذات الصبغة الإسلامية التي يحلم بها، وهو الأمر الذي لا يتأتى برأيه إلاّ بمهادنة الغرب ومساومته ولو إلى حين!
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 2018 - السبت 15 مارس 2008م الموافق 07 ربيع الاول 1429هـ