ولا شك في أن هذا السلوك يكشف عن قصور وعجز عن كشف الحقيقة، وتقديم متهم بلا تهمة للقضاء، أو بتهمة ولكن بغير دليل، أو في أحسن الفروض بدليل فاقد للمشروعية. ولا شك في أن هذا تضليل للعدالة؛ ذلك أن إقامة العدالة يعني تحقيق دليل الاتهام بالقدر نفسه الذي يتم به تحقيق دفاع المتهم، كما أنه تحقيق للتوازن بين خضوع الجميع للقانون، فإذا أصبح الإنسان متهما فإن ذلك غير كافٍ للحط من كرامته وإيذائه بغية إدانته واعتبار ذلك وسيلة لإقامة العدالة بين أفراد المجتمع.
ولقد قيل بحق إن الإجراءات الجنائية في دولة ما هي الصورة الدقيقة للحريات في هذا البلد. وعليه إن تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف بجرم نسب إليه يعتبر هدما لجانب كبير من جوانب الشرعية الإجرائية، فضلا عن كونه فعلا مؤثما في المواثيق الدولية، وجريمة معاقبا عليها في سائر التشريعات الوطنية على أنها جناية مشددة العقوبة.
وخلاصة القول إن أمر التحقيق في الجرائم دقيق جدا، إذ يقتضي إقامة توازن دائم بين الوسائل الرامية إلى المحافظة على المجتمع بالكشف عن الجرائم ومعاقبة مرتكبيها وحقوق المواطنين في صيانة حريتهم وكرامتهم. وضمانة هذا التوازن تتوافر في الآتي:
1. سنّ القوانين التي تحرّم التعذيب وتجرمه: ذكرنا مجموعة من تلك النصوص التي حرّمت التعذيب وجرّمته. ولا ننسى أن نشير في هذا الخصوص إلى نص المادة (208) من قانون العقوبات البحريني التي تنص على أن «يعاقب بالسجن كل موظف عام استعمل التعذيب أو القوة أو التهديد بنفسه أو بواسطة غيره مع متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو على الإدلاء بأقوال أو معلومات في شأنها.
وتكون العقوبة السجن المؤبد إذا أفضى استعمال التعذيب أو القوة إلى الموت». وجريمة التعذيب - كأي جريمة - يتطلب لقيامها عدد من العناصر، منها مادي وهو النشاط الإجرامي للفاعل والنتيجة التي استهدفها، والعلاقة السببية بين النشاط والنتيجة والجانب المعنوي، ويقصد به الصلة بين إرادة الجاني والجانب المادي لجريمته، وهو القصد الجنائي.
ويضيف المشرع عناصرَ أخرى في البنيان القانوني لجريمة التعذيب، فإن تخلف أحدها امتنع قيام الجريمة. ومن تلك العناصر الخاصة كون الجاني موظفا عموميا، وكون المجني عليه متهما، فإذا لم يكن الجاني موظفا عموميا، كنا أمام جريمة اعتداء على جسم الغير، وكذلك الحال إن لم يكن المجني عليه متهما.
ويعتبر فاعلا أصليا من قام بالتعذيب ومن أمر به، أو أذن به على رغم عدم اتصاله بفعل التعذيب ذاته، وخصوصا إذا صدر الأمر والأذن أمام المجني عليه، فإنه برؤيته أو سماعه الأمر بالتعذيب أو الأذن به أكثر ترويعا من التعذيب نفسه وأشد وطئا عليه وإرهابا له؛ باعتبار التعذيب أو التهديد به إنما يقصد به حمل المتهم على الاعتراف بما نسب إليه أثناء التحقيق معه. ورجل السلطة في عدوانه على الأفراد بتعذيبهم أو بتهديدهم أو إغرائهم لحملهم على الاعتراف بما يريد يدرك مدى سطوته المستندة إلى سلطته ويستثمر علاقة الخضوع من الأفراد تجاه السلطة، من دون أن يملكوا حيال بطشه دفعا ولا منعا، وخصوصا إذا كان المجتمع يعيش ثقافة الخوف؛ لأن الجاني يستثمر سلطة وظيفته وسطوتها أسوأ استثمار فيما ينطوي عليه سلوكه من اعتداءات على حقوق فردية ومصالح قانونية تبدأ بمصادرة حق الفرد في صيانة مكونات نفسه وفي سلامة جسمه وحياته، وحقه في الدفاع عن نفسه، وتصل إلى تضليل العدالة باعتراف كاذب قد ينزله القضاء منزل الصدق، ثقة منه بحيادة الإدارة العامة ونزاهتها!
والأمر بالتعذيب بطريق الترك أو الامتناع هو أكثر الفروض وقوعا في العمل. فإذا وقع التعذيب على المتهم لحمله على الاعتراف من موظف أمام رئيسه في العمل أو اتصل بعلم ذلك الرئيس، ولم يأمر مرؤسيه بالكف عن تعذيب المتهم، فإن الرئيس يكون هنا قد عبّر عن إرادته تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف، وذلك هو جوهر الأمر بالتعذيب المحرّم شرعا والمنهي عنه من قبل المشرِّع الدستوري والمواثيق العالمية، والمعاقب عليه من قبل القوانين بوصفه جناية عقوبتها السجن مدة طويلة، فضلا عن العقوبات التبعية.
2. إيجاد جهاز للشرطة القضائية واثق بمقدرته العلمية والفنية والبشرية وقادر على فرض وجوده مع احترام حقوق المواطنين: تفتقر أجهزة الشرطة في الغالب للعناصر ذوي الثقافة العلمية العالية والتخصص، كما أنها - أي أجهزة الشرطة - تفتقر للمختبرات العلمية المتطورة وأدوات الاتصال السريع، والتخطيط في مكافحة الجرائم والوقاية منها. فجهاز الشرطة الذي يعتمد على مقدرته الفنية في وقاية المجتمع من الإجرام وملاحقة المجرم لا يرى نفسه مضطرا إلى اللجوء سوى للأساليب العلمية والقانونية للقيام بمهماته وتتبع آثار المجرم وجمع الأدلة بحقه. وإن تهيئة جهاز الشرطة ليكون على مستوى المسئولية يتطلب رفع ملكاته وتجهيزه بصورة فنية وتمكين العناصر الصالحة والمختصة من دخوله.
فلكي تكون للشرطة فاعليتها وتجد المساندة من قبل المواطنين يجب أن تكون محترمة منهم، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا عن طريق الاحترام المتبادل أي عندما يشعر المواطن أن الشرطي يحترمه ويسهر على أمنه وسلامته بكل جد وإخلاص ويجد لديه كل مساعدة ممكنة. عندئذ يبدأ المواطن احترام الشرطي ومعاونته في أداء رسالته.
3. ضمان السماح بالاتصال بالسجناء أو الموقوفين: كثيرا ما يقع التعذيب عندما يكون السجناء أو الموقوفون محتجزين بمعزل عن العالم الخارجي وغير قادرين على الاتصال بمن يستطيع مساعدتهم أو معرفة ما يحدث لهم. ومن ثم يتعين الكف عن ممارسة احتجاز السجناء أو الموقوفين بمعزلٍ عن العالم الخارجي. وينبغي أن يضمن مثول جميع السجناء أمام هيئة قضائية مستقلة عقب احتجازهم، ومن دون إبطاء، والسماح للأقارب والمحامين والأطباء بحق الاتصال بالمحتجزين فورا وبصفة دورية.
4. عدم احتجاز المعتقلين في أماكن سرية: يحدث التعذيب في الغالب في الأماكن السرية. وفي كثير من الحالات يعقب ذلك إعلان «اختفاء» الضحايا. ولذلك يجب أن يضمن عدم احتجاز السجناء أو الموقوفين إلا في أماكن احتجاز معترف بها رسميا، وأن تُقدم على الفور معلومات دقيقة عن اعتقالهم ومكان احتجازهم إلى أقاربهم ومحاميهم والمحاكم، وينبغي توفير وسائل قضائية فعالة في جميع الأوقات يمكن من خلالها لأقارب السجناء ومحاميهم أن يعرفوا على الفور مكان احتجازهم والسلطة التي تحتجزهم وذلك لضمان سلامتهم من أي عسف.
5. توفير الضمانات الكافية أثناء الاحتجاز والاستجواب: يجب أن يُحاط جميع السجناء والمعتقلين والمحتجزين علما بحقوقهم على الفور، ومنها حق التقدم بأي شكوى من معاملتهم والحق في أن يبت قاضٍ - من دون تأخير - في قانونية احتجازهم. ويجب أن يحقق القضاة في أي دليل على وقوع تعذيب ويوصوا النيابة العامة بملاحقة من وقع منه فعل التعذيب بالمعنى الواسع لهذا المصطلح ويأمروا بالإفراج عن السجين إذا كان احتجازه غير قانوني. وينبغي أن يحضر محامٍ مع المحتجز خلال الاستجواب وألا يقتصر حضور المحامي مع المتهم على مرحلة المحاكمة كما يرى بعض الفقه التقليدي المبني على القراءة السياسية لنصوص القانون، بما يوائم هوى السلطة التنفيذية؛ إذ قد تفوت على المتهم، بسبب عدم تمكينه من إحضار محاميه الذي اختاره أو وافق عليه، أمور لا يمكن تداركها بعد ذلك.
كما ينبغي للحكومات أن تضمن توافق ظروف الاحتجاز مع المعايير الدولية لمعاملة السجناء. ويتعين أن تكون السلطة المسئولة عن الاحتجاز منفصلة عن السلطة المسئولة عن الاستجواب، ويقوم مفتشون مستقلون بزيارات دورية غير معلن عنها مسبقا ومن دون قيود لجميع أماكن الاحتجاز؛ تفاديا لافتعال مظاهر توافق القانون بخلاف الحقيقة.
6. لابد من وجود قضاة مستقلين أكفاء واثقين بأنفسهم وبعملهم حريصين على جعل شخصيتهم وحكمتهم ومواطنتهم خير حامٍ للمجتمع والحرية الفردية.
7. لابد من وجود رقابة على أداء جهاز الشرطة لعملهم والتزامهم بالقانون: لا تكفي القوانين وحدها لمنع التعذيب أو القضاء على ظاهرة تعذيب المتهمين. كما ينبغي - على وجه السرعة - التحقيق في دعاوى التعذيب بإجراء تحقيق نزيه وفعال في جميع شكاوى التعذيب تتولاه هيئة مستقلة عن الجهات المتهمة بارتكاب التعذيب. كما ينبغي إعلان الوسائل والخطوات المتبعة في هذا التحقيق والنتائج التي يتمخض عنها عملا بمبدأ الشفافية الذي صار معيارا للتمدن عند الأمم. وينبغي وقف المسئولين المشتبه في ارتكابهم التعذيب عن القيام بواجبات عملهم خلال التحقيق. ويتعين توفير الحماية للمتظلمين وذويهم، والشهود، وغيرهم من المعرضين للخطر بصفتهم أفرادا أو منظمات المجتمع المدني ذات الاهتمام من أي ترهيب أو أعمال انتقامية قد يتعرضون لها.
وإذا ما أظهرت التحقيقات مسئولية المشتبه في ارتكابهم أعمال التعذيب، فلابد من تقديمهم إلى المحاكمة. وهذا المبدأ ينطبق أيا كان المكان الذي وقع فيه التعذيب وأيا كان أشخاص مرتكبيه أو وضعهم، أو شخص الضحية، ومن دون اعتبار للوقت الذي انقضى على ارتكاب الجريمة؛ إذ لا يجوز أن تسقط بالتقادم؛ لأنها جريمة خصها المشرِّع الدولي والوطني بمعالجة خاصة؛ نظرا إلى طبيعة تلك الجريمة وماهيتها وبعدها الإنساني الذي شكل تهديدا للأمن الاجتماعي؛ مما اقتضى أن تكون هذه الجريمة جناية دائما وخارجة عن قاعدة السقوط بالتقادم لأنها كما صرح الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان بأن «التعذيب وصمة عار على جبين الإنسانية».
لا يفوتني أن أقول لمن فسر المادة الثالثة من المرسوم رقم (10) لسنة 2001 الخاص بالعفو الشامل عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني التي يجري نصها: «يشمل العفو الموقوفين والمتهمين والمحكوم عليهم ممن تسري عليهم أحكام هذا القانون من المواطنين الموجودين داخل البلاد، أو خارجها، على أن يتم العفو على المواطنين الموجودين بالخارج وفق الإجراءات المعمول بها ومع عدم المساس بحقوق الغير، لا تسمع الدعاوى المترتبة عن العفو الصادر بموجب هذا القانون والمراسيم والأوامر التي صدرت في هذا الشأن» إن العفو يمضي على غير المتهمين المعفي عنهم فعلا بأنه تفسير لا تحمله قوائم ولا يقبله وجدان سليم؛ ذلك أن المرسوم المذكور قد عنون بأنه المذكور خاص بالعفو الشامل عن الجرائم الماسة بالأمن الوطني، وهو قانون خاص فيمتنع أن تجري أحكامه على غير من قصدهم، هذا من جهة ومن جهة أخرى إن أي أنشطة أخرى من أي نوع كانت ومن أية جهة صدرت، وتحت أي مسمى أو مبرر تمت لا يمكن أن تدخل تحت مظلة العفو الملكي المذكور. وعليه إن حق كل من تضرر من إجراءات أو تصرفات جاءت بالمخالفة للنصوص الدستورية والقانونية والمواثيق الدولية سالفة الذكر في مقاضاة من خالف الدستور والقانون والمواثيق الدولية، وإن لذلك المضرور حقا مكفولا قانونا ولا يسقط بالتقادم وليس مشمولا بمرسوم العفو أو بالأحرى بالتفسير السياسي لذلك المرسوم، وإن أي تفسير آخر لهذا النص يعد تعديلا له تحت ستار التفسير، وإذا رفضت النيابة العامة تلقي الشكوى، أو التحقيق فيها - عملا بالمرسوم المذكور، أو بالأحرى بالتفسير السياسي له، وتبعتها المحاكم الجنائية في التظلم من قرار النيابة العامة، بعدم قبول الشكوى أو حفظها - فلا أقل من رفع دعاوى للمطالبة بالتعويض على من باشر التعذيب أو أمر به أو سكت عن الأمر به أو مباشرته، مع إدخال الدولة في الدعوى على أساس مسئولية المتبوع عن أفعال تابعه.
فإذا أعيت المدعين الحيل، واستغلقت عليهم السبل من جانب القضاء المدني الوطني، فلهم أن يبتغوا إلى القضاء الدولي سبيلا، ولو من باب إيجاد الضغط الإعلامي، الذي هو اليوم أمضى سلاح بيد من اكتووا بنار التعذيب.
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الشملاوي"العدد 2018 - السبت 15 مارس 2008م الموافق 07 ربيع الاول 1429هـ