في سياق مناقشات ندوة «ثقافة المواطنة لدول مجلس التعاون الخليجي» - التي تطرقنا إليها سابقا من حيث كشفها وجود أزمة وإشكال عن مصطلح المواطنة ومفهومها - كانت أطروحات المفكرَين علي فخرو من البحرين ومحمد الرميحي من الكويت. وعلى رغم اختلاف منطلقيهما الفكري ومنهجيهما التحليلي ومحاسن مقاصدهما، فإنها الأكثر واقعية في تركيزها على ما يتعارض مع مفهوم المواطنة، كيف؟
على مستوى البحرين وجد فخرو أن الإصلاحات التي تمت كانت جزئية وانتقائية ويتعارض بعضها مع المواطنة. لماذا؟ لأن هناك كما ذكر رغبة في وجود انتخابات ولكن دون أحزاب، ديمقراطية ودون تداول للسلطة، حريات شخصية دون حريات سياسية، والأنكى هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية بصورة مباشرة وغير مباشرة، وعلى الرغم من الانفتاح على المؤسسات السياسية، فإن السلطتين التشريعية والقضائية غير مستقلتين والحكومة هي من تقوم بتقديم القوانين، وعدم التوازن بين المجلس المعين والمنتخب بسبب توزيع السلطة التشريعية، والأنظمة الداخلية للمجلس هي من وضع السلطة التنفيذية، والموضوع الشائك يتمثل في مدى شرعية دستور 2002، فضلا عن القانون الانتخابي وتوزيع الثروة والجاه والاحتقانات السياسية التي تهدد الوضع في البحرين، وخصوصا مع انقسام المجلس المنتخب على أسس مذهبية. الحل يكمن في رأيه من خلال النظر إلى المواطنة على انها سيرورة وليست هدفا يتم التوصل إليه شأنها شأن الديمقراطية، وألا يتم القفز على الواقع كما يفعل بعض الليبراليين، وتساءل عن إذا ما كان باستطاعة المفاهيم الإسلامية السياسية استيعاب مفهوم المواطنة أم لا؟
الأفكار السبعة تجسد المواطنة
وعلى الرغم من وجاهة النظرة الرومانسية التي اقترحها فخرو لتجسيد المواطنة التي طبعا لا يتفق معه الكثيرون فيها لعدم واقعيتها من الناحية الفعلية وكاتبة السطور واحدة منهم، جاءت في تبنيه ما اجمع عليه المفكرون الإسلاميون التنويريون من أن مبدأ الشورى والإجماع يستطيعان استيعاب الديمقراطية والديمقراطية الليبرالية، من خلال الأفكار السبعة التي طرحها فهمي هويدي للنظام الإسلامي، التي بحسب زعمه قابلة لتحقيق مفهوم المواطنة. الأفكار هي: إن الولاية للأمة والأمة وحدها مصدر السيادة والحاكم يتم اختياره بكونه أجيرا ووكيلا عن الأمة، والمجتمع مكلف ومسئول عن نفسه، والحرية حق للجميع وهي حق عام، والمساواة بين الناس من الأصول الأساسية، والآخر المختلف له شرعيته والظلم محرم ومقاومته واجبة وتأكيد ان العدالة والقانون فوق الجميع.
وبعيدا عن الخوض في تفاصيل تكوين الأمة وكيف يتم اختيار الحاكم ومضمون الحرية التي تشكل حقا عاما... إلخ، لعل فيما تناوله من سبقنا من المحللين ومنهم على سبيل المثال، إيليا حريق في كتابه «الديمقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب - دار الساقي»، ما يوضح بجلاء الإشكالات التي تشوب منطلقات رؤية فخرو. فما الذي يفيدنا به حريق؟
صدقية الإسلام التنويري
على المحك
يفيد حريق: «... إن الحكم على مدى مصداقية أطروحات الإسلام التنويري من عدمها يتطلب وجود سجل حول سلوك أفراد تلك الفئة السياسي، لكي نستطيع الحكم على مواقفهم الفعلية، خصوصا وإن الإخوان المسلمين مثلا لم يكسبوا ثقة الديمقراطيين حتى الآن بسبب تذبذب مواقفهم وغموض الخط الفاصل بين التقليديين منهم والتحديثين الأحرار...» (ص 236)، ويضيف: «... ثم إن بعض رجال الدين المحترفين يشكلون في حقيقة الأمر كيانا مميزا في مؤسسة الدولة، وجزءا منهم له تاريخه ونفوذه، فالسنة منهم في الغالب موظفون في الدولة التي تشمل بنيتها مؤسسات دينية متخصصة يحتل مناصبها رجال دين كدار الإفتاء ومحاكم الشرع والمعاهد الدينية وإدارة الأوقاف وإمامة المساجد وغيرها من المناصب فهل رجال الدين هنا هم أفراد من المجتمع المدني أم انهم يحتلون مناصبَ في صميم بنية نظام الحكم ولهم سلطتها وقواعدها وشرعيتها؟ بمعنى أليس رجال الدين هؤلاء سراة في مؤسسة حاكمة؟» (ص248).
حريق من جانبه يرى أن بعض الإسلاميين الإحيائيين يقدم مفاهيم دينية - سياسية مستقاة من الفقه الإسلامي النظري بالغة الخطورة من مثل: إقامة الدين، هو الشق الأول من الغاية التي تهدف إليها الحكومة الإسلامية، ومصالح الناس في الدولة الإسلامية لا تحددها محض رغبة بعض القوى السياسية في الدولة ولا أهواء جماهير الناخبين أو آراؤهم، إنما هي سابقة على وجود الجماعة أو الدولة الإسلامية ذاتها ولازمة لها بحيث تفقد هذه الدولة مبرر وجودها إذا تخلت عن غايتها أو تنكرت لها. ويواصل تشخيصه قائلا: «إذا كان غرض الدولة هو إقامة الدين، فإن الدولة إذا أكثر من كنيسة، مهيمنة سياسيا وأخطر، فهي بمثابة كنيسة وحاكمة دون منافس لها...» (ص 251). أما النقطة الخلافية في التشريع فيشير إليها من حيث المدى الذي يسمح به رجال الدين من تشريع حرّ تقوم به الأمة بصفتها مصدر السلطة التشريعية، ومدى تعلقهم بالشريعة الإسلامية الموروثة من دون تحفظ «وهو ما جعل رضوان السيد يركز إشارته إلى تأرجح الإسلاميين المعاصرين بين مبدأ تمثيل الأمة ومبدأ حكم الشريعة...» (ص 255)!
المواطنة وأمراض العصر
إلى هنا نلج في متاهة التنظيرات ومواجهة التحديات المتعلقة بمدى استعداد التيارات الدينية بتنوعاتها واتجاهاتها ومن يمثلها من المفكرين للمواءمة قولا وسلوكا في التعاطي مع مفاهيم العصر ومنها مفهوم المواطنة الذي يحقق كرامة الإنسان والعدالة واحترام المختلف وقبوله. هنا يستوجب التذكر اننا بصفتنا مجتمعات مصابون بأمراض العصر ولا نقبل تطوره تماما - كما وصف الرميحي - ونعيش في بيئة عالمية متقاربة، بَيْد ان أفكارنا السياسية لا علاقة لها بالعصر. في حقيقة الأمر الرميحي اختلف مع فخرو في رؤيته تحقق الديمقراطية أو المواطنة من خلال الشريعة، قال: «لو كان ذلك ممكنا لوصلنا إليه منذ أمد»، بَيْد أن مراهنته - أي الرميحي - على المجتمع المدني من جهة أخرى قد تركت الوضع عائما حينما تأمل تأصيل مفهوم المواطنة عبر مؤسسات المجتمع المدني القائمة على التطوع والإنسانية والمصلحية التي تقع في منزلة بين الأسرة والدولة، والتي ميزها من مفهوم المجتمع الأهلي الذي ليس له مرجعية قانونية منظمة. لم يكن متفائلا ببناء الدولة الحديثة والسبب كما ذكر: «ان لدينا مظاهر الدول المتقدمة ومخابئ العالم الثالث» وقد التقى مع طرحه الأكاديمي الاجتماعي باقر النجار من خلال تأكيد أن الدولة الحديثة مازالت مشروعا مؤجلا طالما ان الجماعات الموجودة قائمة على العنصرية والمذهبية وكلها نافية للمواطنة وتقوم على فكرة استعلاء جماعة على أخرى وحصر المنافع في جماعة دون أخرى.
في هذا الصدد ثمة خلل نسبي يمكن ملاحظته عند التدقيق في مراهنة الرميحي بخصوص المجتمع المدني، وهو ذو صلة باختلال البيئة الحقوقية ونصوص القوانين التي تحكم هذه المؤسسات فضلا عن غياب الممارسة الديمقراطية الحقيقة وازدواجية الواقع وسلوكات الجانب الرسمي. فهناك اختراق لمؤسسات المجتمع المدني من قبل تيارات الإسلام السياسي التي يطوعها بحسب اتجاهاته وأفكاره وممارسته ومواقفه، يوازيها اختراق آخر رسمي يدفع باتجاه خلق مؤسسات مجتمع أهلي مزيف (جمعيات الغونغو)، وهي في حقيقتها مؤسسات رسمية تعمل لصالح النظام السياسي، بل إنها جزء لا يتجزأ منه وينفذ أجندته، والحصيلة كما نتلمس مجتمع مدني متشرذم وهزيل لا يقوى على مواجهة تحديات العصر.
الخلاصة، إشكال ثقافة المواطنة عند تفكيك مصطلحها ومفهومها، تنبع من إشكال الواقع ومعطياته وثقافته السائدة المتلاقحة مع تأثيرات العولمة والثقافات الأخرى في صراعاتها على الهويات ودفاعاتها عن الخصوصية والذات التي تتعرض لمؤثرات الدين ومشروعات التجزئة والفوضى الخلاّقة؛ مما يعظم احترابات القوى والجماعات في مجتمعاتنا التي تمثل مناطقها خطوط تماس وتقاطع مع الثقافات الأخرى فضلا عن مناطق إغراء وجذب لنهب الثروات وهيمنة قوى الاستعمار الجديد، الذي يفرض عليها تحديات وجودية وحضارية لم يسبق لها مثيل في تاريخ المجتمعات البشرية الحديثة
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 2014 - الثلثاء 11 مارس 2008م الموافق 03 ربيع الاول 1429هـ