يقال في العامية «المية تكذب الغطاس». في الحرب على العراق، ارض المعركة، تثبت التوقعات السيناريوهات او تدحضها. اعتقد الخبراء ان اميركا ستبدأ كالعادة بالحملة الجوية، لكن لمدة 72 ساعة وليس كما حصل في العام 1991. بعدها، او خلالها تبدأ العملية البرية. تحدث الخبراء ايضا عن استراتيجية «الصدمة والرعب» Shock & Awe والتي ستوفّر خوض الحرب والمعارك الكبرى المكلفة.
فماذا عن هذه الاستراتيجية؟
- صدر كتاب عن الجامعة الوطنية للدفاع NDU في العاصمة واشنطن، كتب من قبل هارلان أولمان (العام 1996)، تحت عنوان «الصدمة والرعب، لتحقيق السيطرة السريعة». يبدو الهدف الرئيسي من استراتيجية الصدمة والرعب، هو تحقيق السيطرة السريعة، وضرب ارادة العدو على القتال، وجعله يسعى إلى الاستسلام من دون خوض الحرب. تتطلب هذه الاستراتيجية الامور الآتية: المعرفة والاستعلام، والسرعة القصوى في التنفيذ، والبراعة في التنفيذ والسيطرة.
انها الحرب المتوازية على كل مراكز ثقل العدو، دفعة واحدة وبقوة، بشكل لا يستطيع فيه اعادة تنظيم صفوفه استعدادا للحرب، او المعركة الفاصلة.
ما هي مراكز الثقل بالنسبة إلى الاميركيين؟
- ينطلق الاميركيون في تحديد مراكز ثقل العدو من نموذج يعتمد على خمس دوائر ذات مركز واحد Five Rings Model. الدائرة الاصغر هي الاهم، وكلما ابتعدنا عن المركز تضاءلت اهمية الهدف بالنسبة إلى استراتيجية الصدمة والرعب.
تشتمل الدائرة الاولى (في القلب) على القيادة والسيطرة والاتصالات. والثانية، على البنى التحية. والثالثة على الانظمة الحيوية (نفط، ومصانع سلاح وذخيرة الخ)، والرابعة، على القوى العسكرية. اما الاخيرة، فهي تشتمل على الشعب لدى الدولة العدوة. في استراتيجية الصدمة والرعب، تبدأ الحملة الجوية بقصف كثيف بالتوازي ودفعة واحدة على كل مراكز الثقل العدوة، وخصوصا في الدوائر الثلاث الاولى. فمن المنطقي ان يتم تجنب العسكر، وعدم ضرب الشعب (اقل كلفة). بعد الحملة الجوية الكثيفة، يتحقق الشلل الاستراتيجي على صعيد قيادة العدو، الامر الذي يؤمن السيطرة، وبالتالي حسم الحرب بسرعة.
كيف إذا تطبق استراتيجية الصدمة والرعب مع الحرب على العراق؟
- يختلف الامر مع الحرب على العراق جذريا عما ذكرناه آنفا. فالحملة الجوية بدأت في اليوم الاول بقصف استهدف شخص الرئيس العراقي وقادته. مرت فترة لتقييم نتيجة القصف، وبدأ التحرك البري من الجنوب. اذا حتى الآن، لم تطبق استراتيجية الصدمة والرعب. في اليوم الثاني، استمرت الحملة البرية من الجنوب، لكن مع قصف عنيف على اهداف عراقية رسمية حكومية محدودة العدد في العاصمة بغداد. قال رامسفيلد عن هذا القصف، انه «صدمة ورعب». هل هذا صحيح؟
كلا، فالاهداف المقصودة، هي اهداف محدودة حكومية رسمية تخص الحكم في العراق. وتطول صورة وشخص الرئيس صدام، وهي كلها من الدائرة الاولى. اما البنى التحتية، والانظمة الحيوية والشعب فهم مستبعدون كأهداف، اما الدائرة الرابعة وحيث القوى العسكرية، فهي مستهدفة، فقط اذا قررت القتال. فأميركا تريد احتلال العراق، وتريد ان تظهر للعراقيين انها دولة تحررهم، وليست دولة تدمرهم.
يستنتج من هذا العرض ما يأتي:
- تستهدف اميركا القيادة العراقية من خلال قصفها المركز، علّه في وقت من الاوقات تستطيع قتل الرئيس صدام. او لعله يقوم احد بانقلاب عسكري في الداخل يوفر عليها الحرب.
- تحاول التقدم من الجنوب (حتى الآن) لاسقاط المدن والقرى العراقية واحدة تلو الاخرى، ولكن من دون التورط بحرب فيها تجنبا للضحايا وضياع الوقت، هادفة الوصول إلى العاصمة بغداد.
- اما جبهة الشمال فهي تقريبا جامدة، وقد يكون السبب الخلاف الاميركي التركي. او ان فتح الجبهة قد يأتي عند التعثر في الجنوب، او ان هناك مفاوضات مع القوى العراقية للاستسلام من دون معركة.
أين هي معضلة الرئيس بوش؟
- استند الكل على خطاب الرئيس بوش السياسي المتشدد لرسم صورة الحرب ضد العراق. لكن، ولحسن حظ العراقيين، لا يبدو حتى الآن ان الحرب تتوازى مع حدة الخطاب. فالعمليات العسكرية حتى الآن، تجميلية اذا صح التعبير على رغم بشاعتها. وهي محدودة في الزمان والمكان، على رغم انها تتناول العراق كله، وهي ليست شاملة وعامة كما حرب الـ 1991.
- يريد الرئيس بوش تحقيق الهدف السياسي بأقل كلفة ممكنة، على الصعيدين الاميركي والعراقي. لذلك يستعمل اقل قدر ممكن من العنف. لكن هذا لن يكفي، لان الرئيس صدام يعتبر الحرب حرب وجود، يُسمح فيها بكل الوسائل المتوافرة.
- يريد الرئيس بوش ازاحة الرئيس صدام بقصف عدد معين من الأماكن الحكومية الرسمية والتي قد تكون فارغة. ويريد في الوقت نفسه ان تبقى الحياة عادية في بغداد. لذلك نرى الانوار في الشوارع اثناء القصف، والسيارات تتجول، ووزير الاعلام يلعن يوميا الاميركيين. فماذا لو لم يستطع قتل الرئيس صدام، او لم يحصل أي انقلاب؟ فمن أين سيأتي الرئيس بوش بالاهداف الجديدة؟ وهل سيعود لقصف البنى التحتية؟ معضلة بالفعل.
- يريد كسب قلوب العراقيين، ووالده الذي ترك الشيعة، والاكراد تحت رحمة الرئيس صدام العام 1991.
- يريد الوصول بسرعة إلى العاصمة بغداد، والدخول اليها دخول المحررين. لكن السرعة في الوصول إلى بغداد، قد تضعه في مأزق التنفيذ والنتيجة. فإن وصل، فهو ملزم بتحقيق نتيجة سريعة، والا فإن عامل الوقت يعمل ضده. من هنا يقال ان الوزير باول كان قد اتصل بوزير خارجية روسيا طالبا منه التدخل لدى حلفائه داخل العاصمة، لاقناع الرئيس صدام حسين بالتنحي.
- لكن ممانعة الرئيس صدام بالتخلي، ستجبر الرئيس بوش على القتال في المدن. واذا كان الجيش العراقي عازما على الصمود والقتال، فإن السيناريو الاسوأ، والذي حاول بوش تجنبه سيقع حتما. فماذا عنه؟
في بغداد تتساوى القوى، وتخسر اميركا كل تفوقها التكنولوجي. في بغداد، يعرف العراقي ارضه وبيته، اما الاميركي فهو يقاتل في محيط عدائي له. في بغداد لا طائرات بي 52، لان الامر سيبدو وكأن الهدف هو تدمير بغداد. القتال في بغداد، يعني ان التقدم يقاس بالامتار، وليس بالكيومتلرات. وكل متر قد يكلف قتيلا في الجهتين. فهل بوش مستعد لذلك؟ لا اسلحة ذكية في بغداد، ولا طائرات من دون طيار. في بغداد قد تطول المعارك جدا، ويحدث كما حدث في فيتنام، وقد ينهي الحرب رئيس آخر. في بغداد يحق للرئيس صدام استعمال اسلحة الدمار الشامل، لان حرب بوش لا تتمتع بالشرعية الدولية اولا. وهي تدور في بيت الرئيس صدام حسين الذي يبعد 10000 كلم عن البيت الابيض ثانيا. في بغداد قد يلقى الجيش الاميركي ما لقاه الجيش الاسرائيلي في بيروت. وهو مضطر، أي الجيش الاميركي، لتقليد الجيش الاسرائيلي في جنين، إذ راح يتنقل بين منزل وآخر بفتح فجوات في الجدران.
لكن بغداد غير جنين، مساحة وعددا. والفلسطينيون العزل هم غير الحرس الجمهوري، العادي منه والخاص. انها معضلة فعلا، لكن الاكيد ان القتال بالنظارات وعلى الخرائط، هو غيره في الحروب الفعلية، إذ الطبيعة البشرية وتعقيداتها. اللهم نجِّ الشعب العراقي
العدد 201 - الثلثاء 25 مارس 2003م الموافق 21 محرم 1424هـ