العدد 1977 - الأحد 03 فبراير 2008م الموافق 25 محرم 1429هـ

عون اللبناني... وديبي التشادي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ما الرابط الذي يجمع الجنرال ميشال عون في لبنان بالرئيس التشادي إدريس ديبي؟ لا روابط بينهما. ولكن في السياسة هناك الكثير من شبكات الاتصالات المرئية والخفية. فالمشهد الذي نراه على الشاشة الكبيرة ليس هو المنظر الحقيقي. فما لا نراه أحيانا ويتحرك خفية تحت الأرض يشكّل عادة الإطار الذي تتحرك المصالح ضمن حدوده.

الرابط البعيد بين الجنرال اللبناني والرئيس التشادي هو ذاك التنافس الأميركي - الفرنسي على إدارة المصالح. ففي العام 1990 كان عون يقبع في القصر الجمهوري في بعبدا مدعوما من التقاطع الفرنسي/ العراقي الذي شكّل عقدة سياسية في مواجهة التقاطع الأميركي/ السوري في لبنان. في المقابل كان الرئيس التشادي آنذاك حسين هبرى يقاتل الرئيس الليبي معمر القذافي على الحدود وتحديدا في شريط اوزو الغني باليورانيوم. هبري تعاون آنذاك مع قبيلة التبو الليبية المعارضة بدعم من الولايات المتحدة ونجح في انزال هزيمة بالجيش الليبي وضم الشريط الحدودي المتنازع عليه إلى تشاد.

استمرهذا التوازن إلى أن نشبت «أزمة الكويت» في صيف 1990. وشكّلت الأزمة خطوة نحو إعادة ترسيم العلاقات الدولية والإقليمية. آنذاك كانت فرنسا تربطها علاقات جيّدة مع نظام صدام حسين. وبسبب تلك العلاقة المميزة أقدم النظام العراقي على تمويل وتسليح الجنرال عون لمواجهة النفوذ السوري في لبنان. ولكن دخول القوات العراقية أرض الكويت أدّى إلى قلب الطاولة وتغيير زوايا الصورة حين استغلتها واشنطن وأخذت بتشكيل قوّة مضادة للتحالف الفرنسي - العراقي.

أزمة الكويت جاءت لمصلحة النظام السوري؛ لأنّ أميركا احتاجت إلى موقف واضح من دمشق وطالبتها بإرسال قوات إلى حفر الباطن؛ لتكون جزءا من «التحالف الدولي» الذي أسسته الولايات المتحدة لإخراج قوات صدام من الكويت. وبسبب الحاجة الأميركية عقدت صفقة بين واشنطن ودمشق قضت بإرسال سورية كتيبة إلى حفر الباطن مقابل السماح بالعودة العسكرية إلى لبنان وإسقاط الجنرال وطرده من قصر بعبدا. وهذا ما حصل في خريف العام 1990.

آنذاك اعتبرت فرنسا أنّ التوافق الأميركي - السوري على إسقاط الجنرال عون ضربة موجّهة إلى مصالحها في المشرق العربي فردّت على المسألة بعقد اتفاق ضمني مع ليبيا والسودان والمعارض التشادي إدريس ديبي بإسقاط حليف أميركا حسين هبري. وهذا ما جرى الأمر الذي اعتبر آنذاك ردا فرنسيا في تشاد على الضربة الأميركية في لبنان.

مضت حتى الآنَ 18 سنة على تلك الحوادث، وتغيّرت خلالها الكثير من المعادلات والتحالفات. فالرئيس ديبي الذي وصل إلى الحكم بدعم فرنسي - سوداني - ليبي لا يزال في موقعه. والجنرال عون الذي طرد من القصر عاد بعد خروج القوات السورية من لبنان في العام 2005. وصدّام حسين سقط بعد الاحتلال الأميركي في العام 2003 وأعدم شنقا في نهاية 2006. والعراق تغير بعد غيابه وتحوّل إلى «جمهوريات طوائف» ولم تعد دولة بلاد الرافدين موجودة على الخريطة السياسية.

خلال هذه الفترة تبدّلت الكثير من الزوايا. فالجنرال اللبناني تغيّرت تحالفاته خلال وجوده في فرنسا فانتقل منها بعد سقوط بغداد إلى الولايات المتحدة وأعاد ترتيب علاقاته مع واشنطن وعاد إلى بيروت في العام 2005 طالبا العودة إلى قصر بعبدا الذي طرد منه قبل 18 عاما. والرئيس ديبي الذي مضى عليه في الحكم 18 عاما اكتشفت شركات التنقيب الفرنسية في بلاده خزّانات نفط هائلة بدأت باستخراجها تجاريا وبأسعار منافسة دوليا.

السودان الذي دعم ديبي لإسقاط هبري في العام 1990 تعرّض إلى موجات من الضغوط الدولية لعبت فيها تشاد دور المحرك السياسي للمنازعات القبلية في إقليم دارفور الواقع على بحيرات نفط ممتدة على حدود الطرفين. الولايات المتحدة دخلت أيضا على خط التنافس مع فرنسا حين نجحت في تحسين علاقاتها مع ليبيا ونقلت في الآنَ أزمة دارفور إلى الأمم المتحدة وصدر بشأنها قرارات دولية قضت بإرسال قبعات زرق مشتركة مع الاتحاد الإفريقي.

قبائل وطوائف

أزمة دارفور المعطوفة على الاكتشافات النفطية شكلت المدخل السياسي لعودة التنافس الأميركي - الفرنسي على إدارة تشاد انطلاقا من تحريك ملف حقوق الإنسان والمنازعات القبلية الممتدة عربيا وإفريقيا. أميركا استغلت موضوع دارفور الإنساني سياسيا وبدأت تضغط على الخرطوم. وتشاد دخل رئيسها في مأزق حين أخذت واشنطن تنافس باريس على اتفاقات التنقيب على النفط وطالبته بحصة لشركاتها في سوق الاكتشافات. وفرنسا التي دعمت ديبي منذ وصوله للسلطة في العام 1990 اكتشفت أنّ ملف دارفور يمكن أن يتحوّل إلى ممر تعبره الشركات الأميركية فقررت بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي إرسال قوات حماية النازحين من دارفور إلى الحدود الشرقية لتشاد.

هكذا تداخلت عقدة تشاد الجغرافية (خط الاتصال التجاري القبلي مع دارفور) بالعقدة القبلية (تحالف القرعان والزغاوة والمسيرية العربية) بالعقدة النفطية (مخزون نفط وحقول يورانيوم) بالعقدة الدولية (نشر قوات إفريقية وأوروبية ودولية على ضفتي الحدود)؛ لتعيد ترسيم تحالفات مخالفة لتلك العلاقات التي تشكّلت في العام 1990 وأدّت إلى إسقاط هبري في تشاد ردا على إسقاط عون في لبنان.

الخريطة التشادية الآنَ أكثر تعقيدا مما كانت عليه في العام 1990 وهي لا تقل تداخلا واختلافا عما هو وضع لبنان الآنَ. وعون بدأ مع فرنسا وانتهى مع أميركا. وديبي كما يبدو بدأ ينقل مواقعه من فرنسا إلى خط وسط تحتاج إليه واشنطن لتمرير مشروعاتها في الشريط التجاري الذي يربط غرب إفريقيا بشرقها. والخريطة التشادية القبلية الإقليمية والدولية متشابكة كما هي حال الخريطة اللبنانية الطائفية والمذهبية والإقليمية والدولية. والرابط بين الخريطتين هو التنافس الفرنسي - الأميركي الذي لم يتراجع بعد خروج جاك شيراك ودخول نيكولا ساركوزي قصر الأليزيه. والمشهد القبلي الدولي الذي ستنكشف عليه الساحة التشادية في الأيام المقبلة يمكن أنْ يعطي فكرة عن خفايا المشهد الطائفي الدولي في لبنان، الذي بدأت تلاوينه الجوارية والإقليمية ترتسم في أفق بلاد الأرز.

مراقبة التطورات السياسية في تشاد مهمّة لمعرفة حركة التداخلات وتفصيلاتها في أكثر من منطقة بعد أن انكشفت خريطة تنافسات بين فرنسا والولايات المتحدة من الخليج (زيارة جورج بوش وساركوزي المنطقة في أسبوع واحد) إلى لبنان وصولا إلى إفريقيا. الرئيس التشادي اتهم السودان بالتدخل وتحريك الهجوم على العاصمة. والرئيس السوداني اتهم تشاد بالوقوف وراء أزمة دارفور وشن هجمات جوية على حدودها الغربية.

الاتهامات السياسية المتبادلة يمكن رصدها من خريطة التحالفات القبلية التي تقود الهجوم على قصر الرئيس ديبي. فالخريطة التي يتشكّل منها «التحالف الوطني» التشادي المعارض للرئيس تتألف من قبيلة القرعان العربية التي ينتمي إليها الرئيس السابق حسين هبري وقبيلة الزغاوة التي ينتمي إليها الرئيس ديبي وتشكل العمود الفقري للجيش وأجهزة الأمن انشقت وتعاطفت مع مستشار ديبي السابق نيمان أرديمي وقبيلة المسيرية العربية التي يقودها عبدالواحد عبود مكاي. هذا التحالف القبلي الوطني الذي يقود الهجوم لإسقاط ديبي مدعوم من السودان وليبيا ولا يعرف مدى انخراط الولايات المتحدة وفرنسا في المسألة. فالموقف الأميركي يشوبه الارتباك، والموقف الفرنسي يسيطر عليه الغموض نظرا لانعكسات الانهيار على المنظومة الإقليمية العامّة. إسقاط ديبي يضعف حركة التمرد في دارفور ولكنه يعطل على الشركات الفرنسية النفطية نشاطها. ونجاح «التحالف» في السيطرة على مقر الرئاسة التشادية يريح الخرطوم نسبيا وقد يؤخر انتشار القوات الدولية في دارفور والقوات الأوروبية على الحدود التشادية مع السودان.

الخريطة معقدة ومتداخله ولكنها في النهاية مترابطة في أسبابها البعيدة والقريبة. الدول الإفريقية التي اجتمعت في أديس أبابا لمعالجة الأزمة الكينية وما أسفرت عنه من اقتتال أهلي قبلي أعلنت رفضها بوضوح سياسة التغيير العنيف للنظام. وفرنسا أعلنت وقوفها على الحياد ولكنها تبدو منزعجة من أسلوب التغيير السريع والعنيف. الولايات المتحدة تراقب ويبدو أن موقفها الغامض يشير إلى وجود متغيرات في تعاملها مع تعقيدات الخريطة التشادية.

نعود إلى السؤال ما الرابط الذي يجمع الجنرال اللبناني بالرئيس التشاد؟ لا رابط يجمعها سوى ذاك التنافس الخفي الأميركي - الفرنسي الذي اقتلع عون وهبري من قصرهما في وقت واحد. الآنَ وبعد 18 عاما على الفعل الأوّل هل نشهد ردة فعل معكوسة تبدأ باقتلاع ديبي من قصره وصولا إلى تجاذبات تشهدها الساحة اللبنانية ويرجح أنْ تستمر إلى وقت حتى يتضح الخيط الأسود من الأبيض. متغيرات كثيرة حصلت منذ العام 1990 ولكن قانون التنافس الدولي لايزال على حاله يتحرك من العراق إلى لبنان الى السودان، ويرتد من تشاد إلى لبنان.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1977 - الأحد 03 فبراير 2008م الموافق 25 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً