ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن الغلاء وعن الأوضاع المعيشية عموما، وفي كل مرة تردني تعليقات من القراء الأعزاء لا تخلو من مقارنة وضعنا، أو لنقل ما نحصل عليه من فتات النقود بما يحصل عليه إخواننا الخليجيون ولاسيما في الإمارات... ولكن في المقال الأخير الذي نشر يوم الأحد من هذا الأسبوع عقدت المقارنة تلك بنفسي، مشيرة في منطلقه إلى تشابه ظروف الدول الخليجية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمناخية، فانبرى أحد القراء معاتبا بأن المعلومة تلك غير صحيحة البتة، ولا أستطيع لومه أبدا، إذ سقطت مني عبارة «كانوا يدرسوننا في زماننا أن الدول الخليجية ومنها البحرين تتشابه» أو هكذا كانوا يقولون ومازالوا يقولون، على رغم أن أي مواطن بسيط جاهل بإمكانه أن يلمس الفرق سواء أيام زمان أو حاليا إذ اتسعت الهوة حتى بات لا مجال للمقارنة بيننا وبينها على الأقل على الصعيد المعيشي.
درسنا أن البحرين كانت أول دولة خليجية اكتشف فيها النفط، وأول دولة في مجال التعليم، وأول من فتحت المجال لتعليم البنات، والرائدة في مجال الطب والصحة عموما، عوضا عن كونها كانت مقصدا للتجار وخصوصا لأنها شهيرة بلؤلئها وداناتها، والتجارة مع الهند والغرب لاحقا لموقعها الاستراتيجي وطبيعة بحارها... إلخ، إلى أن وصلنا حديثا إلى رياديتها في التنمية البشرية وخدماتها الإسكانية والاستثمار، بالإضافة إلى حفاظها على مراتبها المتقدمة في التعليم والصحة... كل ذلك بحسب (ما يقولون) وما ينشر في الصحف.
ولكن ما نراه على أرض الواقع (المعيشي تحديدا) يجعلنا أنصف إن أردنا مقارنة البحرين بدولة أخرى أن نقارنها بدولة كبنغلاديش مثلا (بحسب رأي أحد القراء) أو أية دولة مشهورة «بفقرها»!... فا هم البحرينيون يشكون البطالة وضعف الراتب، وبعضهم ينشد المساعدة لتوفير لقمة تسد الجوع، وحليب لأطفال لم يسع راتب والدهم لتأمينه إليهم بعد أن زاد سعره. ها هم أمام بوابة وزارة الإسكان ينشدون الرأفة بسني عمرهم التي نهشها الانتظار المر بلا أمل. وها هي عوائد النفط تزيد وتزيد والمواطن يلهث وراء «صدقات» تعلن بأرقام وتسلم إليه ناقصة بعد أن ينهشها الناهشون. وها هي عزة وكرامة المواطن تهان عند الأبواب الموصدة في وجه حقوقه... إلخ من معضلات لا نهاية لها، تجعلنا فعلا أبعد ما نكون عن الدول الخليجية الأخرى التي لم نسمع قط أن مواطنيها اعتصموا بالخبز وباتوا عند أبواب الوزارات فما وجدوا لا سميعا ولا مجيبا!
نرى البلاد تغص بناطحات السحاب وبشركات متعددة ومشروعات عملاقة، ونسمع بعوائد كل ذلك على خزينة الدولة، من دون أن يدخل في جيب المواطن ولا دينار إلا «الصدقات» الضعيفة المجزوءة، وعوضا عن ذلك، كنا (أيام الدراسة) ومازلنا نسمع بالمراكز الصحية والمدارس التي فتحت على حساب الكويت، والمدينة التي شيدت على حساب الإمارات، والدعم السعودي لكثير من الاستثمارات، والأزمات التي تحل بالبحرين ما إن توقف أية دولة مساعدتها ودعمها... وكأن البحرين عموما (صاحبة الريادة) تعيش على «الصدقات»؟!
نتساءل لم كنا أولهم وأصبحنا آخرهم؟ ولم نحن أولهم (اكتشافا) والسباقين لجلب الأموال وآخرهم (غنى ورفاهية)، ولم سحب بساط «الريادة» منا (على رغم عدم اعترافنا بذلك)؟ يبدو لي أن الإجابة البسيطة المختصرة تكمن في: تلك الدول وضعت المواطن نصب عينيها واعتبرته عمادا لنهضتها فسعت لأن تشمله برعايتها من كل الجوانب ماديا ومعنويا، فأعطاها (المواطن) كل ما في جعبته بكرم واقتدار فنهضت دولته فعلا، فيما سلطت البحرين ثلة من المتنفذين على مراكز القيادة في الدولة، وفرغت مدخراتها كلها في جيوبهم، واكتفت بتوزيع «الصدقات» على المواطنين البسطاء، وبدلا من أن ترعى المواطن وتسد حاجاته لترفع معنوياته وتحصد ما تجنيه يداه، دأبت على جلب أناس من مختلف أصقاع المعمورة لتضاعف بهم عدد السكان حتى يصل إلى مليون، فتضيف إلى أزمات المواطنين (المعيشية عموما) قضايا أخلاقية وإجرامية ما سمع بها في البحرين قط، لتقتص البقية الباقية من الصفات التي جعلتها في الريادة... الكرم والطيبة والأمان التي اشتهرت بها!... ومازالوا يقولون «البحرين صاحبة الريادة بين دول الخليج»!
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 1971 - الإثنين 28 يناير 2008م الموافق 19 محرم 1429هـ