العدد 197 - الجمعة 21 مارس 2003م الموافق 17 محرم 1424هـ

حرب دينية... أم هي حرب استعمارية؟

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

مع سرعة دوران «خطة الطريق» الاميركية، تدفع امامها عجلة الحرب على العراق، تختلط الاوراق وتتناثر، فتزيغ الأبصار وتعمى البصائر أكثر من أي وقت مضى...

ومن اكثر الاوراق المختلطة مع الافكار الملتبسة، ورقة توصيف هذه الحرب، التي يؤكد الاميركيون انها أصبحت حتمية، إذ لا تفاهم أو تراجع تحت اي ظرف... البعض يصف هذه الحرب بأنها حرب دينية - صليبية تشنها الولايات المتحدة باسم المسيحية ضد الاسلام والمسلمين، المتهمين بالارهاب والتطرف، وضد العراق ونظامه بداية، المتهم بالدكتاتورية الشريرة وبامتلاك أسلحة الدمار الشامل!

وعلى رغم الشعارات الدينية المرفوعة، وعلى رغم محاولات الرئيس بوش وبعض اركانه، تلبيس هذه الحرب مسوح الرهبان، من نوع انها الحرب العادلة والاخلاقية ضد محور الشر وضد الشياطين، حرب الانقياء الاتقياء ضد الاشقياء، فإنني اميل إلى وضعها في نطاقها الموضوعي الحقيقي، بعيدا عن توريط الاديان في اتونها، على غير رغبات المتطرفين في الناحيتين، الذين باتوا يستعذبون الصراع ويستعجلون اشعال الحروب الدينية واستحضار صراعاتها الدامية القديمة...

وعلى رغم موجات التحريض ضد الاسلام والمسلمين، التي اندلعت في ظل لهيب هجمات سبتمبر/ ايلول 2001 الدامية على مراكز القوة الاميركية في نيويورك وواشنطن، وعلى رغم ردة فعل الرئيس بوش العصبية، وزلة لسانه الشهيرة، بأنه يشن حربا صليبية جديدة ضد «الارهاب الاسلامي»، وعلى رغم كل نظريات صراع الحضارات والاديان التي راجت في الغرب الأوروبي الاميركي، فظهر الامر على المسرح السياسي كما لو أن ما يجري حرب حقيقية وصراع بين الاسلام والمسيحية المتحالفة مع اليهودية... فإن الامر في الواقع غير ذلك!!

ولقد لفت انتباهي الصديق الكاتب اللبناني المعروف «طلال سلمان» قبل ايام إلى اتجاه آخر، يفسر ان الصراع لم يعد بين الاسلام والمسيحية واليهودية، لكنه اصبح في ظل اصرار الادارة الاميركية على إدارة عجلة الحرب ضد العراق، صراعا مختلطا بين طرف اسلامي مسيحي من ناحية، وطرف آخر مسيحي يهودي من ناحية اخرى... فكيف كان ذلك؟

المشهد السياسي عبر العالم كله، يقول لنا ان الغالبية الساحقة من دول شعوب العالم ضد الحرب الاميركية البريطانية على العراق، لكننا حين نتعمق المعارضات الرسمية ومظاهرات الملايين الشعبية في اقطار العالم، نلاحظ ان محور الحرب العنيد، اصبح الآن في قبضة ثلاث حكومات هي: الادارة الاميركية والحكومة البريطانية والحكومة الاسبانية...

في حين نرى ان المعارضة الشعبية - والرسمية غالبا - سادت العالم كله، واللافت إلى النظر ان الكنائس المسيحية كانت على رأسها تقود وتوجه وتفصح وتجاهر برفض منطق الحرب، هنا نلاحظ ان الفاتيكان وعلى رأسه البابا، ومعه الغالبية العظمى من كاثوليك العالم ضد الحرب صراحة، من كاثوليك اسبانيا وايطاليا غربا - على رغم مواقف حكوماتهم - إلى كاثوليك الفلبين شرقا، بل ان اسقف كانتربري في قلب البروتستانتية البريطانية، عارض موقف حكومته بقيادة طوني بلير المحشور الآن في مأزق سياسي لا نعتقد انه سينجو منه، اما المانيا بفرعيها البروتستنتي والكاثوليكي فهي ايضا ضد الحرب...

يبقى موقف ارثوذكس العالم، وهؤلاء ايضا ضد الحرب بشكل مطلق، عبروا عنه بوضوح من خلال المراكز الارثوذكسية الثلاثة ذات الوزن في العالم، ونعني الكنيسة الروسية، والكنيسة اليونانية، والكنيسة المصرية، وعلى رغم ان اكثر من 60 في المئة من الاميركيين بروتستانت، فإن ملايين المتظاهرين الذين نزلوا شوارع المدن الاميركية الكبرى، رفضا للحرب من نيويورك شرقا إلى سان فرانسيسكو وسان ديجو غربا، ضموا معا البروتستانت والكاثوليك والارثوذكس جنبا إلى جنب مع المسلمين الاميركيين... وهذا كله امر يستحق التفكير والتقدير...

ونستخلص من ذلك اكثر من ملاحظة

- ان الصراع القائم على المسرح الدولي، مع الحرب أو ضد الحرب على العراق، لم يعد صراعا دينيا بالمعنى التقليدي المعروف، إذ يحارب انصار ديانة معينة، خصومهم من ديانة اخرى... لكنه صراع سياسي صريح له ابعاده العسكرية والاقتصادية والثقافية، له حساباته ومصالحه ومطامعه...

- ان معارضة الكنائس المسيحية الرئيسية، الكاثوليكية والارثوذكسية ومعظم البروتستانتية للحرب، التي يحاول بعض السياسيين إضفاء الصبغة الدينية عليها، قد اضعفت حجج هؤلاء وكشفت ذرائعهم، حين وجهت معتنقي هذه الديانات المسيحية، مع منظمات المجتمع المدني الاخرى، إلى التظاهر بالملايين رفضا للحرب، واستنكارا لاستغلال راية المسيحية في صراع مصطنع ضد الاسلام والمسلمين...

- هنا التقت هذه التوجهات صراحة مع الغالبية الاسلامية في العالم، المعارضة للحرب على العراق، والتي طالما أحسست انها تحارب وتواجه وحدها طغيانا غربيا أوروبيا في الماضي، اميركيا في الحاضر، يتغطى بشعار الصليب ليقهر المسلمين في ديارهم، ويستعيد الذكريات التاريخية المريرة عن الحروب الصليبية، ثم الحروب الاستعمارية الحديثة التي تمت بمباركة من الكنائس الغربية، رغما عن إدارة الكنائس الشرقية ذاتها!

- والواضح إذن فشل دعاة الحرب الدينية على الناحيتين، مقابل نجاح كامل لمنطق وضع هذه الحرب العدوانية في اطارها السياسي العسكري الصحيح، والدليل ان معسكر معارضي الحرب يضم مسيحيين اوروبيين واميركيين، آسيويين وافريقيين، كاثوليك وبروتستانت وارثوذكس، مثلما يضم مسلمين من كل لون واتجاه...

والحقيقة التي نراها، هي أن هذا الاصطفاف الهائل المعارض للحرب عموما، وللحرب الدينية خصوصا، انقذ البشرية ونبهها إلى خطورة المأزق التاريخي، الذي حفره انصار الحروب والصراعات السياسية والدينية على السواء، مثلما انقذ العالم الاسلامي - 1,5 مليار - من التورط والانجرار إلى صراع دام ومعقد ليس في صالحه أبدا، وحرم المتطرفين في مراكز تحريك هذا الصراع والتحريض عليه - سواء في الغرب المسيحي او الشرق الاسلامي - من أهم الاسلحة وأقواها...

لكن ذلك يدفع إلى التساؤل المقابل، وهو ممن يتكون إذن محور الحرب الذي يتغطى بالدين، ليشعل صراعا دينيا... ونجيب انه يتكون من تحالف اصولي سياسي - ديني، مسيحي - يهودي، اميركي - اسرائيلي، في واجهته يقف بوش - شارون، لكن الذي يحرك ويحرض ويقود ويدفع الجميع نحو الحرب على العراق وغيرها من الدول العربية والاسلامية، هو ما يسمى «التحالف المسيحي - الصهيوني»، الغائم بين غلاة التطرف في عدد من الكنائس البروتستانتية، وبين زعماء المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة الاميركية، مع اليمين الاسرائيلي الحاكم...

وكان لهذا التحالف تأثيره القوي في الادارة الاميركية السابقة للرئيس الديمقراطي كلينتون، ولكن تأثيره الحالي في إدارة الرئيس بوش الجمهوري، صار اقوى وأعلى صوتا وأعمق نفوذا، وفي كل الاحوال تمكن هذا التحالف من التحكم المركزي في دوائر صناعة القرار الاميركي، وأضفى عليها مسحة دينية - توراتية لتغطي الاهداف السياسية الحقيقية، وأوصل بالتالي عددا من رموزه ممن يسمون بالصقور المتشددين إلى المطابخ السياسية الاميركية...

وسواء وصف بعض المحللين هذا التحالف بأنه «نادي المسيحية الصهيونية» أو وصف هو نفسه بأنه «نادي اميركا في القرن الجديد»، فإن استراتيجيته تقوم على عدة محاور، اولا، دفع اميركا إلى فرض هيمنتها السياسية الاقتصادية العسكرية، على العالم بسرعة، بما في ذلك اوروبا الام العجوز. ثانيا، مواجهة العالم العربي والإسلامي بأكبر حشد من القوة العسكرية ليس فقط لقهره واخضاعه، ولكن اساسا للسيطرة على ما يملكه من النفط، من حقول الجزائر غربا إلى حقول العراق والخليج شرقا. وثالثا، تقوية «اسرائيل» لتكمل بناء دولتها الكبرى من النيل إلى الفرات، ولاقامة الهيكل تحقيقا للوعد التورناتي، الذي يؤمن به اليهود وبعض الكنائس البروتستانتية...

ولقد وجد التحالف الصقوري ضالته في رجلين جاء بهما القدر على عجل، شارون الدموي المتعصب في «اسرائيل»، وبوش الضعيف المتدين في اميركا، وبينهما يمتد حبل طويل من الصقور النافذين هنا وهناك، من العجوز هنري كيسنجر باستشاراته المميتة، إلى نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني، إلى وزير الدفاع دونالد رامسيفيلد، إلى نائبه وولفويتز، إلى رئيس لجنة سياسات الدفاع ريتشارد بيرل، وصولا إلى قائمة طويلة من الليكوديين - الجمهوريين اليمينيين في مجلس الأمن القومي ووزارات الخارجية والدفاع والمالية، ناهيك عن الكونغرس بمجلسيه والاعلام بسلطاته ودوائر المال والاعمال بسطوتها...

والحقيقة ان هذه مجرد امثلة لصقور الادارة الاميركية الراهنة، بعضهم من اليهود وبعضهم من المسيحيين المتعصبين، اتفقوا جميعا على استراتيجية موحدة، وضعوها امام الرئيس الخاضع لنفوذهم - الذي جعل من السفاح شارون بطلا للسلام!! - وأضفوا عليها مسحة دينية وشعارات اخلاقية، فإذا بها تجد صدى في عقل الرئيس وقلبه... فاندفع ليس فقط في اطلاق صيحات الحرب الصليبية ومحاربة محور الشر باسم الرب، ولكنه اندفع في توريط العالم في حرب عدوانية الطابع استعمارية الهدف، إن بدأت غدا بالعراق، فإنها لن تتوقف حتى تحرق الجميع، تنفيذا لاستراتيجية الصقور الليكوديين هؤلاء...

وإن كان ضمير العالم قد تيقظ اخيرا رافضا لهذه الحرب بكل دوافعها وملابساتها، على نحو ما عبرت عنه بشجاعة الشعوب والحكومات والكنائس والمساجد والمنظمات الاهلية والمدنية، فإن الضمير الاميركي بدأ هو الآخر يستفيق ولكن ببطء ملحوظ، عبَّر عن نفسه بمظاهرات الشارع الرافضة لمنطق الحرب مقابل النفط، وبدأنا نقرأ في الصحف الاميركية آراء تعارض حملات التحريض باسم الدين، بل وتتهم المنظمات اليهودية، بدفع الرئيس بوش واميركا كلها، نحو حرب لن تكسب منها سوى «اسرائيل»، على نحو ما جاهر به «السناتور جيميس موران» عضو الكونغرس، الذي تعرض لحملة صهيونية اتهمته كالعادة، بمعاداة السامية... فاعتذر وسحب كلامه سريعا، لكن كانت الرصاصة - الكلمة، قد خرجت من فمه ولن تعود طبعا...

هذه في رأينا حقائق الموقف، وطبيعة الصراع، ونوعية الحرب الاميركية المقبلة ضد العراق، الموازية للحرب الصهيونية القائمة ضد فلسطين، وكلتاهما ستنتقل بعد غد إلى موقع آخر على القائمة...

ثمة حروب استعمارية جديدة، هدفها فرض الهيمنة واستنزاف ثروات الآخرين، وتوسيع مناطق النفوذ، وتنصيب الحكومات العميلة، تحت دعاوى أخلاقية وشعارات دينية، لم تعد تخدع أحدا، اللهم إلا قلة من المتطرفين لدينا، الذين من ضيق افقهم السياسي وظلام فكرهم، وجدوها فرصة لمنازلة جديدة، وحرب دينية تزرع التعصب وتزهر العنف والتطرف... وفوق هذا وذاك ينتصر الفقر والجهل والتخلف لنا... وينتصر العدوان والاستعمار والهيمنة علينا...

وفي الحالين، نخسر حاضرنا ومستقبلنا، إن خضعنا لتطرف بعضنا، وتطرف بعضهم...

خير الكلام: يقول عبدالرحمن شكري:

يحوطني منك بحرٌ لست اعرفُه

ومهمةٌ، لست ادري ما أقاسيه

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 197 - الجمعة 21 مارس 2003م الموافق 17 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً