الحرب هي الحل الوحيد المتوافر لدى الأميركيين. فبدلا من ان تكون الحل الأخير، نراها تتقدمهم. لا مجال للدبلوماسية بعد الآن، وإذا تم التداول بها، فهي للاستهلاك الإعلامي فقط. بوش عازم على الإطاحة بصدام، وذلك لأنه يظن انه تم اختياره من بين كل الناس. فالرب انقذه من الخمرة والمخدرات، لأن العامة يصلّون له يوميا.
يتهم الرئيس بوش الرئيس صدام حسين بأنه طاغية، يقتل شعبه ويعتدي على محيطه. أما هو، فإنه معيَّن ومختار من قبل قوة مجهولة، وحربه هي حرب مقدسة، يسمح فيها كل شيء حتى السلاح النووي.
النظرة إلى الحرب
يعتبر الرئيس صدام ان الحرب عليه، هي حرب على كل العرب والمسلمين. وان اميركا تريد الاستيلاء على الثروات العربية. لكن الحرب في المقلب الآخر هي حرب الإطاحة به. وهو يعتبر ان الإطاحة به، هي الإطاحة بالعراق باعتباره دولة. إذا هي حرب وجود. وفي حرب الوجود ترخص الأثمان، ويسمح باستعمال كل شيء للحفاظ على الكيان. في حروب الوجود، يعتبر القتيل شهيدا، وهو يؤسس لمزيد من التضحيات. لا تحصى الخسائر في هكذا نوع من الصراعات. قدمت الجزائر مليون شهيد، فقط لأنها احست بأن هويتها وكيانها مهددان، كذلك الأمر، حاربت فيتنام الأميركيين، من دون حساب للقتلى. لذلك من المؤكد ان يتصرف الرئيس صدام بكل ما يملك للحفاظ على العراق، وعلى نظامه. فالمعركة معركة كرامة، والعربي وتحديدا العراقي، مفعم بهذه الكرامة. انطلاقا من هذا الوضع، فمن الممكن ان نرى لاحقا، وخلال الحرب، الكثير من العنف، واستعمال كل ما توافر. فإذا ما كان لدى الرئيس صدام أسلحة دمار شامل، فإنه حتما، وانطلاقا من مفهوم حرب الوجود، سيستعملها ضد الأميركيين. من هنا يتأتى الخطر.
يعتبر الرئيس بوش ان حربه محقة، حتى ولو كان العالم ضدها، ويقول البعض، ان اميركا حاليا معزولة على الصعيد العالمي. فالتظاهرات تعم العالم تنديدا بالحرب على العراق. لكننا، ولو حسبنا عدد الدول المؤيدة لاميركا، فإننا سنلاحظ العكس. تقريبا غالبية دول أوروبا مع اميركا. استراليا واليابان أيضا، هذا عدا بعض الدول العربية، وخصوصا المحيطة بالعراق. ستحدد الحرب على العراق المستقبل السياسي للرئيس بوش، فإن هو تراجع، فلن يربح الديمقراطيين الى جانبه. كما انه سيخسر حتما انصاره الجمهوريين. استثمر الرئيس بوش كل أرصدة أميركا، السياسية منها والعسكرية، هذا عدا عن الرصيد المعنوي. فإن هو خسر حربه، ستتراجع أميركا الى مستوى دولة عادية. وسيشك في قدرتها الحلفاء. وستتجرأ الكثير من الدول على تحديها في المستقبل. وبالتأكيد، يصبح تنظيم «القاعدة» المرشد الروحاني للعالم الإسلامي. ويصبح وضع اميركا كما وضع روما عشية انهيارها. لا يمكن لبوش ان يخسر حربه ضد العراق. فالترسانة المنتشرة حول المسرح العراقي، هي فريدة من نوعها، ونوعيتها. كما ان موازين القوى تميل بصورة مطلقة لصالح اميركا، فهي مسيطرة على كل الأبعاد. لذلك، فإن أي تراجع او خسارة، سيجعلان صورة اميركا، نمرا من ورق فعلا. أو عملاقا يقوم على أرجل من فخار. في ظل هذا الجو، سيستعمل الرئيس بوش كل ما توافر لديه من وسائل لاتمام مهمته «المقدسة». وبين نظرة الرئيس صدام إلى الحرب، ونظرة الرئيس بوش إليها. يبدو اننا سنشهد مستوى مرتفعا جدا من العنف.
القدرات العسكرية
بعد ان انتهت اميركا من حرب الخليج الثانية العام 1991، فرضت في وقت لاحق بمساعدة بريطانيا منطقتي الحظر الجوي وهي كانت قد ارست منظومة امنية محددة في منطقة الخليج، لتنفذ استراتيجية ثنائية الأهداف. الأول، لتطبيق الاحتواء المزدوج على كل من العراق وإيران. والثاني، المحافظة على منطقتي الحظر الجوي في العراق. ومن أجل التنفيذ على أرض الواقع، لابد من وجود البنى التحتية اللازمة. فكانت الاتفاقات السرية مع دول الخليج. القواعد الجوية المنتشرة دائريا حول العراق. العتاد المخزن مسبقا في بعض البلدان، كالكويت. مراكز القيادة المتقدمة، وذلك الى جانب تأمين القواعد البحرية في المياه والضفاف. السيطرة على الخطوط البحرية، وعلى الأجواء. نشر قوات عسكرية قليلة العدد كافية لاستيعاب أي خلل أمني، بانتظار استقدام قوات إضافية، تكون البنى التحتية المعدة سلفا بانتظارها.
المتغير الثاني والأساسي عن الحرب الأولى، يتمثل في ان القوات الأميركية اصبحت قادرة، أو بالأحرى أصبحت في مرحلة متقدمة جدا من عملية استيعاب الثورة في الشئون العسكرية (الزمن المطلوب للاستيعاب هو عقد من الزمن تقريبا). منذ الحرب الأولى على العراق، حسنت اميركا من أدائها، واستوعبت عقائد عسكرية جديدة قادرة على التنفيذ بواسطة الوسائل التكنولوجية الحديثة. وفعلا رأينا نموذجا فريدا من نوعه في الحرب على أفغانستان. في تلك الحرب رأينا الأمور الآتية: قوى جو قاتلة تستعمل أسلحة ذكية توجه بواسطة الأقمار الصناعية (90 في المئة من القنابل كانت ذكية). قوات خاصة تساعد الطيران على القصف، وتتبنى قوات التحالف الشمالية التي نفذت الهجوم الأرضي. طائرات من دون طيار قادرة على القصف الجوي، وعلى الاستعلام التكتيكي. باختصار، حقل المعركة ماثل أمام القائد لإدارته واتخاذ القرار.
أما العراق، فهو بلد من الموجة الصناعية الثانية. فجيشه تقليدي، حتى ولو تمتع في بعض الأحيان بقدرات غير تقليدية. سيقاتل الجيش العراقي في الخطوط الداخلية. أي انه محاط بدائرة من القوى الأميركية. لكنه سوف لن يستطيع الاستفادة من هذا الوضع. لماذا؟ في الخطوط الداخلية، يمكن للقوى ان تساند بعضها بعضا. فيمكن نقل القوى من جبهة الى جبهة أخرى بسرعة قصوى. هكذا فعلت «إسرائيل» في العام 1967 مع كل من مصر والأردن وسورية. في الوضع العراقي الحالي، تبدو السيطرة الجوية مطلقة لأميركا، فإن حاول العراق المناورة بقواته، فإن قوى الجو المعادية تبيدها بسرعة. أما أميركا فهي تقاتل في الخطوط الخارجية، أي في الدائرة الكبرى المحيطة بالمسرح العراقي. لكنها قادرة على هذه المناورة، لأنها تملك الوسائل اللازمة. كما انها موجودة تقريبا في الكثير من النقاط حول الدائرة المحيطة بالعراق. هل يعني هذا ان الحرب منتهية سلفا؟
الحرب هي ميدان المجهول، ولا يمكن التكهن بصورة حسابية سهلة بنتيجتها، لذلك نلاحظ ان العراق يريد منع أميركا من مراقبة أرض المعركة بصورة مستمرة. وهو يخطط لذلك، عبر استراتيجية جر أميركا الى داخل المدن. فهو قسّم العراق الى أربع مناطق عسكرية، وعيَّن المسئولين الذين يثق بهم. وهو حتما وزّع الأوامر المسبقة على قادته، وحدد السلوك الواجب اعتماده في سيناريوهات مختلفة. وهو يعي بالتأكيد ان الاتصالات ستنقطع في المراحل الأولى للحرب بينه وبين القادة. كذلك الأمر احتفظ الرئيس العراقي لنفسه بحق إعطاء أمر إطلاق الصواريخ. اليد على الزناد، الأهداف معروفة، ولابد من الانتظار لمعرفة نتائج المعركة. لكن الأكيد ان أميركا محشورة... والخاسر الأكبر هو الشعب العراقي
العدد 196 - الخميس 20 مارس 2003م الموافق 16 محرم 1424هـ