«رب ضارة نافعة» هو من بين الأمثال العربية التي تحاول امتصاص الصدمات وتدفع نحو الكشف عن الوجه الخفي للحدث السيئ، والنظر إلى النصف الملآن من الكأس. فلا يوجد أسوأ مما يتعرض له الفلسطينيون من تقتيل يومي وتدمير لكل مقومات الحياة، وفرض للوصاية عليهم. ولا يوجد أفضع من الحرب التي سيذهب ضحيتها مئات الآلاف من العراقيين، وستدمر بسببها البنية التحتية والعسكرية لبلاد عربية في حجم العراق.
ومع ذلك، وعلى رغم المشهد المأسوي الذي يهيمن على أجواء المنطقة، والضعف الشديد الذي بغلته الأنظمة العربية وآل إليه ما يسمى بالنظام الرسمي الإقليمي، وحال الإحباط التي تعاني منها النخب والجماهير، فإن للمحنة الراهنة جوانب إيجابية لابد من البحث عنها أو توقع حدوثها في المستقبل المنظور. وفي هذا السياق يمكن التوقف عند بعدين، أحدهما ذاتي أو داخلي، والثاني خارجي أو دولي.
من 67 إلى الآن: الديمقراطية المفقودة
النبش وراء الواقع المؤلم يقود حتما إلى ضرورة الاعتراف بأن ما آلت إليه الأوضاع ليس فقط وليد المؤامرات الأميركية والإسرائيلية وغيرها. هناك مسئولية ذاتية ضخمة لا يمكن إسقاطها من أي تحليل منهجي وصادق. إن ما تفعله الإدارة الأميركية الحالية ليس غريبا إذا وضعناه ضمن سياق دولة تريد أن تسيطر على العالم من خلال مصادرة النفط العراقي والمسك برقبة كامل منطقة الشرق الأوسط. فالسياسة الامبريالية الفجّة ليست لها أخلاق ولا تعرف حدودا تقف عندها كلما سنحت لها الفرصة بالتوسع. إنما الوجه الآخر من القضية هو أن العالم العربي أصبح يتمتع بقابلية شديدة وقوية للاستعمار والوصاية الخارجية. لقد فقد الجسم العربي مناعته الذاتية، وأصبح معرضا لجميع الأمراض والاحتمالات. وما كان من قبيل المستحيل والخيال أصبح اليوم أمرا بديهيا ولا يثير أي اهتمام أو رد فعل. فمثلا لو أن مبادرة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الخاصة بالصلح مع «إسرائيل» قد طرحت قبل عشر سنوات لأثارت ضجة، واعتبرت منعرجا تاريخيا لا تقل عن مبادرة الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة في العام 1965. لكن على رغم حجمها ودلالاتها السياسية المهمة، فقد طرحت ومرت ولم تسفر عن أي شيء ملموس. ويعود ذلك إلى السياق التاريخي الذي نزلت فيه، والذي يتميز بانهيار شامل سياسي واقتصادي وثقافي وقيمي لما يسمى بالكيان العربي والإسلامي.
لقد تعطلت القدرة العربية على استشراف المستقبل، أو حتى القدرة على تحديد حجم الكوارث والهزات التي تتعرض لها الأمة. فعندما قرر الرئيس صدام حسين ضم الكويت، وذلك قبل أيام قليلة فقط من اجتياحها بحسب مصادر عراقية مقربة منه، كان واضحا لكل من له عقل ولم تجرفه العاطفة، أن حاكم بغداد لا يحسن قراءة المعطيات الاستراتيجية للنظام الدولي. وأنه تصرف وكأنه في المرحلة العباسية أو على الأقل في فترة متزامنة أو سابقة بقليل تجربة محمد علي المريرة. وبدلا من أن يتصدى له كل من قرأ التاريخ والجغرافيا والعلوم السياسية لكي يثنوه عن ذلك دفاعا عن أمة تائهة ومثقلة بأخطاء حكامها ومفكريها وشعوبها، وجد من شجعه على ذلك ووصفه بالزعيم الملهم.
إذا تم التسليم بأن الأخطاء الذاتية هي المقدمات الطبيعية لجلب المصائب الخارجية، وتشجيع الدول الكبرى وحتى الصغرى أحيانا على التدخل، أصبح المكسب الذي قد يترتب عن هذه الأزمة الضخمة الراهنة واضحا. ويتمثل هذا المكسب في ضرورة إحداث إصلاحات عميقة وحقيقية، وخصوصا في المجال السياسي. فلم يعد من المنطق ولا الحكمة التسليم والخضوع للحكم الفردي، مهما كانت قوة الحاكم ومكانته وتاريخه. فلو خرج العرب من هذه الأزمة برغبة جماهيرية جامحة نحو فرض الديمقراطية لأمكن القول إن مستقبلهم سيكون أفضل مهما تضخمت الخسائر الراهنة.
مستقبل العرب مرهون
بمستقبل التعددية القطبية
إن إصرار الولايات المتحدة على ضرب العراق رغم أنف بقية العالم، جاء نتيجة منطقية لانتهاء مرحلة الاستقطاب الثنائي وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي. وقد تأكد اليوم أكثر من أي وقت مضى أن العرب والمسلمين خسروا كثيرا من هذا الانقلاب الضخم الذي حصل في موازين القوى الدولية. لقد وجدوا أنفسهم في العراء، وفقدوا كل إمكان للمناورة، وأصبحوا عرضة للابتزاز الأميركي بجميع ألوانه. ومما زاد في تعميق هشاشتهم حال التفكك الذاتي التي يمرون بها، واستسلامهم الكامل لواشنطن. لقد سبق أن قال ياسر عرفات إن 99 في المئة من حل القضية الفلسطينية بيد أميركا، وهو يعلم حجم التحالف والترابط بينها وبين «إسرائيل». وها هو يدفع شخصيا ثمن تسليمه لمفاتيح القضية.
من هذه الزاوية يشكل الانقسام الدولي على المسألة العراقية أهمية قصوى بالنسبة إلى العرب. إن المحور الفرنسي الألماني الروسي، على رغم كونه محورا مؤقتا فرضته مصالح مشتركة، وقد لا يكون فاعلا في إلغاء الحرب أو إيقافها، لكنه سيمهد لفرز جديد للمشهد الدولي بعد غلق الملف العراقي. إن رغبة واشنطن في قيادة العالم بالقوة، من شأنه أن يدفع الدول ذات الثقل إلى التكتل ومحاولة الحد من هذا الجنوح والجنون الأميركي. ومن شأن هذه التدافع أن يؤدي - بحسب اعتقاد كثير من الخبراء الاستراتيجيين - إلى تعددية قطبية جديدة. وفي هذا السياق يجب أن يعمل العرب والمسلمون على تشجيع بروز هذه التعددية من خلال دعم علاقاتهم بأوروبا، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تعريض مصالحهم الحيوية مع أميركا للخطر.
هكذا يتبين أن الدرس الأول من الأزمة الراهنة يهم بدرجة أساسية النخب والقوى السياسية العربية والإسلامية التي يجب أن تركز في المرحلة المقبلة على المسألة الديمقراطية، وتجعلها في مقدمة أولوياتها. أما المكسب الثاني فيتعلق بصناع القرار وجميع التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وهو يتطلب إدراكا جماعيا بأن الهبة الشعبية العالمية ضد الحرب، والوقفة التي اتخذتها بعض الدول ضد إدارة الرئيس بوش، هما خطوتان نحو صناعة المستقبل. وأن ذلك ليس شأنا غربيا غربيا كما يتوهم البعض، وإنما له أبعاد كونية، وأن من مصلحة العرب والمسلمين الانخراط الواعي والجدي في هذه المعركة العالمية، وذلك بدعم هذه المبادرات الأوروبية الآسيوية، ونسج علاقات قوية مع القوى الاجتماعية الجديدة. فغدا يبدأ اليوم
العدد 196 - الخميس 20 مارس 2003م الموافق 16 محرم 1424هـ