العدد 1958 - الثلثاء 15 يناير 2008م الموافق 06 محرم 1429هـ

بوش والدولة الفلسطينية... أوهام تتبدد

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

مع انتهاء زيارة الرئيس الأميركي جورج بوش للمنطقة، يتأكد كل من كان لديه شك، أن الهدف الرئيسي كان احتواء الأزمة الإيرانية، وحشد الحلفاء العرب، جنبا إلى جنب مع «إسرائيل»؛ للوقوف الصارم في وجه الشبح النووي الإيراني الغامض.

ويخطئ من يتوهم أن الهدف الرئيسي لبوش من هذه الزيارة كان تحقيق وعده الشفهي بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب «إسرائيل»، قبل أن يغادر البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني المقبل. صحيح بدأ بوش جولته الشرق أوسطية بزيارة «إسرائيل» والأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ أطلق سحابات من التصريحات الغامضة، بل أحيانا المتضاربة، ولكن الصحيح أيضا هو أن الجزء الثاني من جولته التي أخذته للخليج والسعودية ومصر، ركز فيها على ما يسميه الأميركيون الخطر النووي الإيراني، وهذا هو الأهم لهم.

ولقد كان من المتصور أن يقايض المسئولون العرب الرئيس بوش، فيحصلوا على ضمانات حقيقية لإقامة الدولة الفلسطينية المبتغاة، مقابل وقوفهم خلفه في الأزمة الإيرانية، ولكن ما حدث غير ذلك، فما أطلقه من تصريحات عن الدولة الفلسطينية كما ذكرنا، جاء غامضا ومتناقضا وخادعا أيضا، مقابل حصوله على تعهدات عربية محددة تقوي مواقفه المتصلبة تجاه إيران من ناحية، وفي صالح «إسرائيل» من ناحية أخرى.

وأظن أن بوش في ختام جولته، قد تخيل أنه أوقعنا جميعا في فخاخ من الأوهام، سواء وهم إقامة دولة فلسطين حقيقية، أو وهم امتلاك إيران لسلاح نووي يهدد الأمن القومي العربي وفي الحقيقة لم يستطع أن يقنعنا - أعني الرأي العام - بقدرته ورغبته في إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ولا أن إيران تمثل خطرا نوويا على أمننا في المستقبل القريب على الأقل، بصرف النظر عن هوجة التصريحات الرسمية والبيانات البروتوكولية التي لا تعبر عن الحقيقة!

وحين نعود إلى مجمل تصريحات الرئيس الأميركي خلال زيارته «إسرائيل» والأراضي الفلسطينية، فإننا نكتشف أنه ركز على أفكار معينة ومبادئ محددة، كررها كثيرا من باب التأكيد العلني، ولعل أهمها قوله إن التحالف الأميركي - الإسرائيلي هو الضامن الحقيقي لأمن «إسرائيل» دولة يهودية، ومن الواضح أن التركيز على يهودية دولة «إسرائيل»، هو جوهر التفكير والتحرك الأميركي - الإسرائيلي، بعد عقود من الحديث عن «إسرائيل» دولة ديمقراطية علمانية مفتوحة.

والحقيقة إن صلب المشروع الصهيوني قام ويقوم على تأسيس دولة يهودية نقية من الآخرين، وخصوصا من العرب المسلمين والمسيحين على السواء، وبهذا المعنى فهي دولة عنصرية طائفية دينية، أكثر منها دولة علمانية ديمقراطية، ولكن الدعم الغربي والترويج الدعائي نجحا لعقود في تصوير «إسرائيل» على أنها جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية القائمة على جناحي العلمانية والديمقراطية.

اليوم احتكم الأمر وانكشفت الدعايات الكاذبة. فقد زادت الضغوط من أجل البحث عن «حل إنساني» لمعاناة الشعب الفلسطيني المشرد والمعذب والمحاصر، تحت الاحتلال والقهر الإسرائيليين. فعادت فكرة إقامة دولة فلسطينية ما تعيش في سلام إلى جانب «إسرائيل»، أو بمعنى أصح تحت جناحيها وفي ظل هيمنتها. وهذا بالضبط جوهر ما طرحه الرئيس بوش عن رؤيته لإقامة دولة فلسطينية، بحثا عن حل إنساني وليس تحقيقا لحقائقَ تاريخية وحقوق سياسية لشعب تعرض للعدوان!

والإصرار على يهودية «إسرائيل» يعني - فيما يعني - أولا إسقاط حق العودة لملايين الفلسطينيين الذين شردوا وأجبروا على اللجوء والهجرة خارج الوطن، وهو حق أقرته الأمم المتحدة ولا يسقط بالتقادم، وثانيا يعني تخليص «إسرائيل» الدولة اليهودية من نحو مليون وربع مليون فلسطيني يعيشون فيها حتى الآن، بعد أن اكتسبوا جنسيتها بحكم الإقامة والتمسك بديارهم وحقوقهم الوطنية.

فإن كان هناك احتمال لتطبيق حق عودة اللاجئين الفلسطينيين فليعودوا إلى الدولة الفلسطينية المقترحة، وليس لديارهم الأصلية التي استولت عليها «إسرائيل»، بل والأنكى أن يصبح من حق «إسرائيل» أن تطرد المليون والربع مليون فلسطيني منها إلى الدولة الفلسطينية هذه على ضيقها وفقرها.

ومن الواضح أن الرئيس الأميركي تجاهل تماما كل ما أسفرت عنه سياسات فرض الأمر الواقع التي مارستها «إسرائيل» طوال العقود الماضية، سياسات «الابرتايد» والفصل العنصري؛ لكي تحاصر الفلسطينيين في كانتونات منعزلة محاصرة، تتحكم فيها وتقطع أوصالها وتخضعها لهيمنتها الكاملة.

هكذا فعلت «إسرائيل» بالأرض الفلسطينية، من خلال توسع السرطان الاستيطاني الرهيب من ناحية، ثم بناء جدار الفصل العنصري الذي فرق الضفة الغربية المحتلة من ناحية أخرى.

والنتيجة الحالية هي إن الاستيطان الإسرائيلي ابتلع 60 في المئة من الضفة الغربية، وحشر فيها أكثر من مئتي ألف مستوطن إسرائيلي، وفي الوقت نفسه أغلق قطاع غزة وعزله عن الضفة، ثم عزل القدس تماما بتوسعه الاستيطاني فيها باعتبارها «عاصمة أبدية لـ (إسرائيل)»، كما عزل الأغوار أيضا، فماذا بقي من الأراضي الفلسطينية لتقام عليها دولة متواصلة قابلة للحياة، سوى 40 في المئة من مساحة الضفة الغربية يمزقها جدار الفصل العنصري الذي يتلوى فيها كالثعبان؟

والحقيقة إننا أمام صورة عبثية، بل مسرحية هزلية، يعلو صخبها بتصريحات من كل اتجاه تتحدث عن إقامة دولة فلسطينية، وتحقيق الحلم التاريخي وإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي الطويل والمرير. إلا أن صورة الواقع الحادث الآن في الأراضي الفلسطينية من تمزيق وعزل وحصار عنصري، تؤكد أن الخداع هو السائد، والوهم هو الذي يجري ترويجه أميركيا وعربيا وإسرائيليا، لتبتلعه الشعوب المقهورة وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني المشرد المعزول!

ولعلني أستبعد أن يقع الضمير الوطني والقومي ضحية لهذا الخيال المريض ولهذا الوهم الشديد. وأستبعد أن يقبل مسئول فلسطيني واحد أو حاكم عربي بالاستسلام لهذا الوهم المتبدد تحت شعار «الحصول على ما هو ممكن بدلا من ضياع ما تبقى من فلسطين»، وهو شعار يعبر عن حق يراد به باطل في الأصل والأساس.

وفي المقابل من باب التمني، أرجو ألا يكون ما يتردد الآن صحيحا عن نجاح الرئيس بوش في الحصول على تعهدات صريحة من الزعماء العرب الذين التقاهم في جولته الأخيرة، وتنص أولا على الدعم الكامل لمشروع الدولة الفلسطينية «الورقية» المقترحة، وتشجيع توقيع اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين قبل نهاية ولايته الرئاسية، وثانيا أن تتولى الدول العربية تمويل مشروع تعويض ملايين اللاجئين الفلسطينيين بعد إسقاط حق العودة، وثالثا إسراع الدول العربية في تطبيع علاقاتها مع «إسرائيل»؛ تشجيعا لها على قبول قيام الدولة الفلسطينية!

فإن صحت مثل هذه التعهدات ورأيناها تتحول إلى سياسات وخطوات، فإن العرب يكونون قد ارتكبوا أكبر خيانة في التاريخ، خيانة التفريط في فلسطين وأرضها المقدسة، وخيانة التنازل نهائيا عن القدس لتكون عاصمة أبدية لـ «إسرائيل» المغتصبة، وخيانة بيع ملايين اللاجئين الفلسطينيين المشردين بثمن بخس دراهم معدودة، فضلا عن خيانة أنفسهم بالخضوع المشين لإملاءات «إسرائيل» ولضغوط أميركا، بحجة أن العرب ضعفاء في هذه المرحلة لا يملكون القدرة على الرفض والمقاومة، على حين الواضح أن الضعف يشمل الجميع، فالعرب ليسوا وحدهم الضعفاء، بل إن بوش نفسه في أضعف مراحله، وأولمرت يشاطره الضعف نفسه، وهو معرض للسقوط في أية لحظة، ولذلك إن هذا التحالف الثلاثي للضعفاء لا يمكن أن ينتج حلا حقيقيا وتسوية عادلة للصراع العربي - الصهيوني في الظروف الراهنة على الأقل، بل إن الضعف ينتج ضعفا مركبا.

ولذلك فنحن في حاجة الآن أكثر من أي وقت مضى، إلى صحوة حقيقية للضمير الوطني والقومي، وتدعيم المقاومة دفاعا عن الكرامة، وممارسة شجاعة الرفض ولو لمرة واحدة في الحياة. فالرفض المتأني خير من القبول المتعجل!

خير الكلام:

يقول القطامي:

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1958 - الثلثاء 15 يناير 2008م الموافق 06 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً