سؤال بديهي يقفزفورا حينما تتكثف التصريحات المتعلّقة ببرامج وإنجازات الدولة الهادفة إلى مكافحة الفقر والقضاء عليه. السؤال: هل ستكافح هذه البرامج ظاهرة الفقر في البحرين وتقضي عليها أم لا؟ في حقيقة الأمر، ليس ثمة شك أنّ البرامج المعنية بحاجة لفحص وتفكيك، لماذا؟ لأنّ ظاهرة الفقرالمحلية هي نفسها مثيرة للجدل والسجال، ولاسيما في ظل غياب للإحصاءات الدقيقة والشفافة يقابلها ندرة للدراسات الميدانية التي تعالجها كظاهرة اجتماعية، فضلا عن افتقاد لقانون رسمي يحدد مفهوم خط الفقر في المجتمع البحريني.
مفهوم الفقر ومقياسه
هناك مقاربات عديدة يميل علماء الاجتماع والباحثين إلى انتهاجها عند مقاربة ظاهرة الفقر في المجتمعات الإنسانية، أبرزها تلك التي تستند على المفهوم الذي يحدد الفقر بالنقص الحاد في الموارد عن المستوى الذي يقابل حاجات الفرد الأساسية، بمعنى تدني مستوى معيشة الفرد والأسرة الذي يتمظهر في انخفاض استهلاك الغذاء والوضع الصحي والمستوى التعليمي والسكني والحرمان من توافر امتلاك بعض السلع والخدمات بالإضافة إلى البطالة والكوارث والأزمات.
من جهة متصلة، تكشف الدراسات بأنّ البلدان تعتمد طرقا وأساليب متعددة لقياس ظاهرة الفقر وتحديد مؤشراتها الإحصائية، منها قياس حصة الفرد من السعرات أو البروتين وهذه يُعاب عليها إغفالها لمتطلبات وحاجات الفرد الأساسية الأخرى كالملبس والصحة والتعليم، كما يأخذ بعضها بمقياس المنافع والمساعدات فضلا عن مؤشر مستوى دخل الأسرة، وعلى الرغم من كون الأخير مرجحا أكثرمن غيره من قبل بعض الخبراء المحليين كمقياس موضوعي للفقر عن طريق قياس مستوى الدخل إلا إنّ أبرز معارضي هذا القياس يدعى «Townsend al 1979-1981» يرى أنه لا يعطي صورة واقعية وحقيقية عن مستوى الحرمان الذي تعيشه الأسر ذات المداخيل المتدنية ويؤكّد أنّ إحصاءات الدخل لابدّ وأن يعززها الانطباعات الذاتية للفقراء وأساليب فهمهم لحالتهم الاجتماعية. بل إنّ هناك مَنْ يجد صعوبة في تحديد الدخل الذي يمثل حدا فاصلا بين الأسرة الفقيرة وغير الفقيرة، على اعتبار إنّ تحديد حد أدنى لدخل الأسرة هو تعريف ذو طابع اجتماعي متغير بحسب ثقافة المجتمع والفترة التاريخية التي يمرّ فيها، بالإضافة إلى أنّ وضع الأسرة في المجتمع الواحد متباين من حيث حجمها وتركيبتها وفقا للعمروالجنس وتغيّر مستوى المعيشة الذي لا يتطابق مع تغيّر مستوى دخل الأسرة.
تأسيسا على ذلك، يتعذرالأخذ بمفهوم الفقرالمطلق في البحرين ولاسيما إنّ مضمونه يعتمد على تحديد خط الفقر قياسا على مدى توافر الحاجات الضرورية للفرد وهذا بحد ذاته مسألة نسبية ويتطلب -أي المفهوم- الدقة والحذرفي اعتماده وهو ما جعل بعض الاقتصاديين يرون في مفهوم الفقر النسبي الذي يتحدد قياس خط الفقر فيه على أساس نسبة معينة من مقياس الرفاه مثل: «الدخل الوسيط»، هو الأنسب والأكثر ملائمة لقياس الظاهرة في مجتمعنا.
الفقرأوّلا أم الإنجازات؟
إلى هنا والسجال لا يتوقف، لماذا؟ لأنّ البعض يجد أنه لا داعي أصلا لطرح «السؤال الإشكالية» هل ستكافح برامج الدولة الفقرفي البحرين أم لا؟! معللين سبب ذلك إلى أهمية التركيز على ما حققته الدولة من إنجازات تنموية رفعت من مستوى معيشة الفرد عامّة وستؤدي بدورها إلى القضاء على الفقر إنْ «كان موجودا» أصلا، فهناك المساعدات الاجتماعية التي تقدم عن طريق صندوق الضمان الاجتماعي حيث رصدت له الدولة في يناير/كانون الثاني2007 موازنة بلغت (913,150 د.ب) وذلك لمساعدة (9796) أسرة بحرينية «الوسط 16/1/2007» وهي تشمل العاجزين عن العمل وكبار السن والمرضى والمترمّلين والمطلقات والأيتام وأسرالمسجونين، يُضاف إليها الهبات والمكرمات المتمثلة في تخفيض وتمليك وإلغاء نصف أقساط الوحدات والقروض الإسكانية عن بعض الأسر ورفع الحد الأدنى لدرجات الرواتب الأساسية لموظفي الحكومة ومضاعفة العلاوات الاجتماعية، وخفض الرسوم الجامعية وتخصيص ملكية مجمّع السيف بنسبة (30 في المئة) من الأسهم للأسرالمعوزة وإقامة مجمّع تجاري في سترة لمساعدة ذوي الدخل المحدود في المنطقة، وما يقدم من إعانات للمعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة، كلّ ذلك قد تم تدعيمه بسلة من التشريعات والقوانين.
كما لا يغيب عن البال، قانون النفقة والمشروع الوطني للتوظيف الذي بحسب مصادررسمية قد خفض نسبة البطالة إلى ما دون(4 في المئة)، أضف إليه قانون التأمين ضد التعطل الذي يخصم نسبة 1في المئة من رواتب الموظفين يحصل عليها العاطل كأجرلا يقل عن (150 د.ب) شهريا، مع التنبيه لضرورة الأخذ في الاعتبار الاشتراطات التي تيسرعملية الدفع أو تحجبها وهي تمثل قضية خلافية لايزال يدورحولها النقاش في البرلمان. لا ننسى وللموضوعية التذكير بأنّ التعليم الإلزامي والرعاية الصحية مع التعليم بالمجان أو شبه المجان وهو مثار جدل أيضا من حيث نوع الخدمة الصحية والمخرجات التعليمية وجودتها، وهناك حديث عن نمو للناتج الإجمالي المحلي بلغ (7 في المئة) «، أرجعه الخبراء إلى ارتفاع أسعار النفط ونمو عائداته التي بتقديرهم أثرت نسبيا على ارتفاع مستويات الدخل عند فئات محدودة من المواطنين.
الفقر نسبي ولكن...؟
إلى ذلك، كلّ هذه الإنجازات صحيحة مئة بالمئة، إلا أنّ الصحيح أيضا هو ضرورة إعادة طرح السؤال عن حجم تأثير تلك الإنجازات في مكافحة الفقر والقضاء عليه وإبرازصورته الحقيقة كمّا ونوعا قبل النفخ في تلك الإنجازات وتضخيمها، فالواقع يشيء بدلالات رئيسية عن الأداء الاقتصادي لها تأثيرعلى الفقر ولا يجوز بأيّ حال أنْ يتجاوزها ضمير ولا قرون استشعار أي باحث اجتماعي واقتصادي أو فضول أيّ صحافي وباحث يسعى للوصول إلى الحقيقة.
من بين هذه الدلالات ما له علاقة بمؤشرات النمو والتشغيل والفساد والتضخم والبطالة وتدني الأجور وغيرها والتي يمكن صياغتها في شكل أسئلة استفهامية غالبا ما تتعطل عند مناقشة ظاهرة الفقرالمحلية وهي تبدأ بماذا ولماذا وكيف وما هو وأين وغيرها. من تلك الأسئلة ما يأتي:
(1) ماذا يعني زيادة أعداد الأسر التي تتسلم مساعدات وإعانات اجتماعية من وزارة التنمية عاما بعد عام؟ وما علاقة ذلك بالتجنيس؟ وما هو حجم المساعدات الحقيقية وهل يفي بمتطلبات الأسرة الأساسية مع ارتفاع مستويات المعيشة؟
(2 ) بماذا تفسّر ظاهرة الاقتراض الاستهلاكي التي تشير التقارير إلى أنّ نسبتها بلغت (1253 مليون د.ب في 2006)، وبحسب تقرير «ستاندرد آند بور» S & P» 2003»، فأن نسبة إجمالي القروض إلى القروض المصرفية في المملكة غالبا ما تزيد على (40 في المئة) من حيث المعدل العالمي المسموح به وهو (30 في المئة) وهذه حالة غير صحية كما ذكر الباحث عبدالجليل النعيمي، وأضاف أنّ (85 في المئة) من المقترضين ليس لهم دخل غيرالراتب الشهري - مع ملاحظة تدني الرواتب - وإنّ قرابة ثلاثة أرباع المقترضين تتراوح أجورهم بين (200-600 د.ب شهريا) و(42في المئة) منهم يعيلون أسرا يتراوح عدد أفرادها بين (4-6 أفراد)، و(27في المئة) من المقترضين تقع أعمارهم بين (21-30 سنة)؛ أي بين فئة الشباب الذين لا يزال مستقبلهم الوظيفي غير مستقر «الوسط 24/12/2007»، كما أنّ ما يزيد على (30,000 ألف) من العاملين المسجلين لدى الهيئة العامّة للتأمينات الاجتماعية «موقعهم الإلكتروني2005» والذين تقل أجورهم عن 200 د.ب شهريا محرومون من الحصول على القروض الاستهلاكية إلى جانب العاطلين عن العمل، وعليه أليس الاقتراض مظهرا من مظاهر سد حاجات الأفراد ويجدر بالمعنيين بالقضاء على الفقر أنْ يضعوه في حسبانهم عند تحديد خط الفقر البحريني؟
(3) وماذا عن حجم البطالة ووضع العاطلين عن العمل الذين قدرّت إحدى الدراسات عددهم بنحو (20,000 ألف) في 2005، بينما سجّلت الأرقام الرسمية عددهم ب (6570 عاطلا) فقط «الوسط 26/12/2007»، ألا تؤدي البطالة إلى إفقارهم إجباريا وانحدارهم إلى هوة الحاجة والعوز وتدني مستوى المعيشة، وبالتالي تحتم الواقعية إدراجهم في قائمة التقصي عن واقع الفقر البحريني؟
(4) لماذا ارتفع عدد الصناديق الخيرية (من 7 في 1989 إلى 72 في أغسطس/آب 2003 حتى بلغت 80 صندوقا في 2007)، في الوقت الذي قدرّت فيه إحدى الدراسات «انظر بوابة المرأة» أنّ هذه الصناديق تخدم نحو (9000 آلاف) أسرة فقيرة بشكل منتظم وشهري وتغطي الإعانات نفقات التعليم والعلاج والزواج والمساعدات الرمضانية وغيرها. وعليه ألا يعد ذلك دلالة على ارتفاع عدد الفئات الاجتماعية المحتاجة وتدني قدرتها على مواجهة ارتفاع مستويات المعيشة؟
(5) وماذا عن توقعات صندوق النقد الدولي بشأن ارتفاع نسبة التضخم في البحرين إذ بلغت 2,1 في المئة في 2006 «الوقت، 26/12/2007»،/ وهناك حديث عن بلوغها نسبة 13.6 في المئة في 2007 «الوسط 6/1/2008»، لاسيما وإن للتضخم تأثير على إعادة توزيع الدخل لصالح الأثرياء على حساب أصحاب الدخول الثابتة وشبه الثابتة من العمال والموظفين والمتقاعدين فضلا عن أزمة غلاء الأسعار التي ضج النقاش حولها بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية بنسب تتراوح بين (15 في المئة -100 في المئة، بين 2006-2007) مع شبه جمود وتدني في مستوى الأجور لن تفيد معه الإجراءات الترقيعية الآنية التي تتجنب وتتهرب من «زيادة الأجور» لجميع القطاعات، أليس لذلك أي تأثير على تآكل دخل الفرد ومما يقلل من قدرته على الوفاء بالاحتياجات الأساسية، وبالتالي تدني مستوى المعيشة وارتفاع نسب الإفقار في البلد؟
إنه غيض من فيض الأسئلة الشيطانية المزعجة التي يستوجب تداولها عند معالجة ظاهرة الفقر المحلية، فمن خلال المشهد أعلاه يجمع المراقبون على أن ّالمجتمع مقبلٌ على احتمالات كثيرة وخطيرة ولاسيما إنّ دفن رأسه في الرمال كالنعامة حينما يتعاطى باستخفاف مع آفة الفقر، ليس أقلها ما يتهدد الأمن الاجتماعي والتهميش لفئات اجتماعية قد تؤدي إلى حدوث انفجارات واضطرابات متكررة.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1957 - الإثنين 14 يناير 2008م الموافق 05 محرم 1429هـ