يعتقد البعض بأن الديمقراطية كمنهج كفيلة بتذليل كل العقبات والمشكلات التي تعترض التقدم والنمو والتنمية وتزيل كل ألغام الحروب الأهلية والصراعات الدموية والتوتر الاجتماعي والعوامل الدافعة للعنف. هذا نصف الحقيقة بينما النصف الآخر يجد تفسيره في عوامل أخرى ربما تزيد أو تنقص من أهمية الديمقراطية كآلة تنظيم سلمية لتعارض مصالح البشر.
كيف قرأ الإسلاميون هذه المسائل؟ ولماذا انقسموا عليها بين رافض للفكرة إذا كانت تعني محاربة العقيدة وقابل لها إذا كانت توافقها؟
قبل قراءة الخلاف على الديمقراطية في الحركات الإسلامية المعاصرة لابد من التأكيد أنها تلعب سلسلة أدوار متفاوتة بين بلد عربي وآخر. فهناك تنظيمات إسلامية مشاركة في البرلمان وموجودة بنسبة عالية في خمسة برلمانات عربية (الأردن، الكويت، اليمن، والبحرين، ولبنان). وهناك تنظيمات حاكمة أو مشاركة في الحكم بنسب متفاوتة (السودان واليمن). ومجرد القبول باللعبة الديمقراطية وممارستها سياسيا والدخول كطرف مشارك في الحكم أو الحكومة يعني نظريا أن الإسلاميين يوافقون عموما على اللعبة وشروطها ويحتكمون للاختيار والانتخاب وصندوق الاقتراع وفكرة التداول السلمي للسلطة.
يحاول الباحث الأردني هاني حوراني شرح خلفيات وظروف ونتائج انتخابات 1993 الأردنية، فيذكر أن الدولة حاولت «لجم الحركة الإسلامية والقوى السياسية الأخرى المعارضة للمفاوضات السلمية مع إسرائيل»، بينما حاولت الحركة الإسلامية «تكريس شرعيتها وتجنب المواجهة مع الحكم (...) والعمل تحت ظلال الشرعية والعلنية». (قراءات سياسية، السنة الرابعة، العدد الثاني، ربيع 1994).
لعل التجربة المذكورة، توفر علينا الكثير من الجهد النظري في نقاش فكرة قبول الديمقراطية أو رفضها. فالمشاركة تذلل الكثير من العوائق الأيديولوجية وتطرح السؤال على الأنظمة التي ترفض الديمقراطية وتقمع المجتمع السياسي وتلاحق المعارضة على اختلافها كما حصل ويحصل في الجزائر (حين حرم الإسلاميون عن حق اكتسبوه عن طريق الاقتراع الشعبي)، وكما حصل ويحصل في تونس (حين منع الإسلاميون من حق تشكيل حزب سياسي والمشاركة في الانتخابات)، وكما حصل ويحصل في مصر (حين اعتقل الإسلاميون الذين تقدموا بطلب ترخيص لإنشاء حزب الوسط بمشاركة الأقباط وغيرهم من قوى سياسية غير إسلامية). هذا الوضع المتأزم دفع الكاتب فهمي هويدي إلى نعي التجربة الديمقراطية في مصر في مقاله «إجهاض الحلم الديمقراطي» تعليقا على القانون الجديد للنقابات المهنية في مصر الذي أصدره مجلس الشعب، ويذكر أن المجلس تشكل بنسبة 10 في المئة من أصوات الناخبين وقاطع أو لم يصوت في الدورة 90 في المئة، كذلك تراوحت نسبة المشاركة في انتخابات المحليات بين 5 و6 في المئة. ويرى هويدي أن الديمقراطية في مصر «تعاني من أزمة عميقة، أطلق عليها البعض وصف الجفاف السياسي. معناه أيضا أننا نتعامل مع الديمقراطية كمستهلكين لا كمشاركين». (قراءات سياسية، السنة الثالثة، العدد الثاني، ربيع 1993).
إذا السؤال يجب أن يوجه إلى الأنظمة التي تقمع الحريات السياسية وتمنع تداول السلطة في وقت نحاول أن نقرأ الفكرة الديمقراطية (نظريا وسياسيا) في أيديولوجية الحركات الإسلامية. فمن يحرم من حقوقه السياسية ويطارد ويلاحق ويمنع من تشكيل حزب سياسي يرفض العنف ويدينه ويهاجم تصرفات حركات التطرف ويقبل بأسلوب الاقتراع والانتخاب وتداول السلطة سلميا لا يطالب بشيء محروم منه بل المطالب بالرد على السؤال هو الأنظمة التي تخاف الحرية خوفا على نفسها.
مع ذلك يمكن قبول المعادلة ولو كانت معكوسة حتى يمكن التوصل إلى صيغة مركبة تحاول قدر الإمكان تسوية المأزق سلميا. فما هو مفهوم الديمقراطية في صيغه المتداولة في عقل وأطروحات التنظيمات الإسلامية (تحديدا المفكرين والقادة من بينهم) وكيف تصنف تلك المنظمات السياسية فكرة الديمقراطية؟ وكيف تقرأ آلياتها؟
الفكرة وتاريخها
يستعرض زكي أحمد تاريخ فكرة «الديمقراطية في الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر» فيذكر أنها كانت حاضرة في أعمال الإسلاميين الفكرية «منذ حركة الإصلاح الإسلامي، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي إلى هذا الوقت (...) إلا أنه حضور محدود وعرضي ومتأثر بظرف الزمان والمكان» (المستقبل العربي العدد 164، ص 113).
ويصنف زكي أحمد تلك الأعمال الفكرية في حقل الديمقراطية إلى مدارس أربع:
الأولى، حاولت أن تبرز ديمقراطية الإسلام مقابل ديمقراطية الغرب، وتأتي محاولة الأديب المصري عباس محمود العقاد (توفي العام 1964) في الطليعة حين أصدر كتابه «الديمقراطية في الإسلام»، الذي أثر في جيل من الباحثين فصدرت بعده دراسات منها «نشأة الفكر السياسي وتطوره في الإسلام» لمحمد جلال شرف، و «الفكر السياسي في الإسلام - شخصيات ومذاهب» لعلي عبدالمعطي محمد ومحمد جلال شرف، و «الحرية السياسية في الإسلام» لأحمد شوقي الفنجري. وبعد العقاد صدر كتاب المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي (توفي العام 1973) تحت عنوان «حول الديمقراطية في الإسلام»، أكد فيه على الشورى ودلالاتها السياسية.
الثانية، حاولت أن تبرز نظرية الشورى في الإسلام مقابل الديمقراطية في الغرب، وأبرزها محاولة حسن الترابي في كتابه «نظرات في الفقه السياسي»، وكتاب عبدالحميد الأنصاري «الشورى وأثرها في الديمقراطية».
الثالثة، حاولت التشكيك بالهجوم على ديمقراطية الغرب، وأبرزها محاولة خالد محمد خالد في كتابه «الديمقراطية... أبدا» وكتاب محمد قطب «مذاهب فكرية معاصرة».
الرابعة، رفضت الديمقراطية واعتبرتها فكرة لا تمت للإسلام بصلة، أبرزها كتاب كاظم الحائري «أساس الحكومة الإسلامية» وكتابات «حزب التحرير الإسلامي» ومؤسسه الشيخ تقي الدين النبهاني. (المستقبل العربي، العدد 164، صفحات 113، 114، 115).
من جهة تقديم فكرة التعددية وتراجعها يربط فهمي هويدي الأسباب بالواقع الإسلامي وعصور «التراجع والاستبداد السياسي»، ويلاحظ أن جماعة الإخوان المسلمين وضعت تحفظاتها على فكرتي الحزبية والديمقراطية في وقت مبكر، كذلك كان الموقف التقليدي للجماعة الإسلامية في الهند وباكستان، ويشير إلى محاضرة مؤسس الجماعة الشيخ أبوالأعلى المودودي التي ألقاها سنة 1939 وأكد فيها أن «الإسلام يأبى أن يتحزب أهل المشورة». وجاء الدستور الإسلامي الذي أقره علماء شبه القارة الهندية (31 فقيها) في العام 1951 وشمل 22 نقطة ليتجاهل مسألة الديمقراطية، لكنه أشار إلى «حرية إبداء الرأي وحرية التنقل وحرية الاجتماع» (راجع الإسلام والديمقراطية، صفحة 72 - 73).
ويرى هويدي أن موقف الجماعتين الإسلاميتين في الهند وباكستان اختلف في الثمانينات والتسعينات حين قبلتا بفكرة التعددية. كذلك حصل التطور نفسه في فكر جماعة الإخوان في مصر، كذلك نص دستور حزب التحرير الإسلامي على قبول فكرة التعددية الحزبية في مشروعه الذي صدر في مطلع الستينات. ويربط هويدي التطور المذكور بتطور الفكرة نفسها واختلاف ظروفها المكانية والسياسية، ويشير إلى جهود الكثير من الفقهاء مثل «محمد عبده ورشيد رضا إلى الشيخ محمود شلتوت، في موضوع نظام الحكم أو رؤية الإسلام السياسية (...) وما قاله الشيخان عبده ورضا عن الشورى في تفسير المنار، وما ذكره الشيخ شلتوت بصدد المبادئ الأساسية في الحكم، يزيل كل التباس في الموضوع». ويعتبر هويدي أن تطور الفكرة جاء في سياق التصالح معها. فبعد أن زالت تأثيرات الاشتباك مع الغرب الاستعماري تصرف العقل الإسلامي «بوعي كافٍ حين ميَّز بين ما هو حضاري في الغرب وبين ما هو سياسي». (الإسلام والديمقراطية، صفحة 123 - 124).
ويناقش هويدي أفكار الجماعة الإسلامية المحظورة في مصر التي تعتبر أن «الديمقراطية على النقيض من الإسلام», ويرى في كلامها «شذوذا على الخطاب الإسلامي العام». ويثبت فتوى «الفقيه الأصولي المعروف» الشيخ يوسف القرضاوي التي صدرت في نهاية الثمانينات ونشرها في كتابه لتأكيد أن التيار العام والأساسي مؤيد للديمقراطية والتعددية. (راجع كتاب القرضاوي «فتاوى معاصرة»، صفحة 636).
تمتد فتوى القرضاوي على 14 صفحة وفيها يؤكد جوهر الديمقراطية التي تشمل الانتخاب والاستفتاء العام وترجيح حكم الأكثرية وتعدد الأحزاب السياسية وحق الأقلية في المعارضة وحرية الصحافة واستقلال القضاء، وغيرها من الشئون والمسائل. ويرى أن الإسلام قرر «الشورى قاعدة من قواعد الحياة الإسلامية، وأوجب على الحاكم أن يستشير، وأوجب على الأمة أن تنصح، حتى جعل النصيحة هي الدين كله (...) كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة (...) وأن الحاكم في نظر الإسلام وكيل عن الأمة أو أجير عندها». وينتهي في فتواه لتأكيد أن الشورى الإسلامية تقترب من روح الديمقراطية أو جوهر الديمقراطية يقترب من روح الشورى الإسلامية. (راجع الإسلام والديمقراطية، هويدي، صفحات 135 - 149).
جاءت فتوى الشيخ القرضاوي لتحسم الخلاف وترجح وجهة نظر على أخرى، لكنها حتى الآن لم تقطع دابر النقاش، لأن الآراء السياسية والفقهية متنوعة وتختلف باختلاف الظروف والبيئات، وتتركز معظم السجالات على المصطلح وشرعية استخدامه، وعلى المفهوم ومضمونه العقائدي. الصادق المهدي مثلا، يذكر في كتابه «تحديات التسعينيات» أنه «ليس في الإسلام نظام حكم معين، والنظم التي أقامها المسلمون في تاريخهم نظم بشرية اختاروها بحسب ظروف زمانهم ولا يوجد ما يلزم بها الآخرين». لكنه يعود فيؤكد أن الإسلام جاء بمبادئ سياسية مثل الحرية والعدالة والمساواة وضرورة الحكم للجماعة، ألا يعاقب أحد إلا بقانون، ألا يعاقب أحد بجريمة غيره، أن يكون الأمر شورى (مشاركة). وينتهي إلى القول «هذه المبادئ التي أتى بها الإسلام منذ خمسة عشر قرنا تطورت حتى ماثلتها النظم الديمقراطية الحديثة» (ص 197).
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1946 - الخميس 03 يناير 2008م الموافق 24 ذي الحجة 1428هـ