العدد 1945 - الأربعاء 02 يناير 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1428هـ

«هيئة الثقافة والتراث الوطني»: تهيئة فارقة أم خلع شرعي؟!

خالد المطوع comments [at] alwasatnews.com

يشرفني أن أضم صوتي إلى جانب صوت زميلي الفاضل وأخي العزيز قاسم حسين في تقديم كامل الدعم والمساندة الصحافية اللازمة للنائب الفاضل عبدالله العالي في جهوده الكريمة بشأن ملف تدمير مقابر عالي من قبل الإقطاعيين المتنفذين، والسعي إلى تدمير وتصفية التراث الحضاري البحريني الذي تتباهى به الأمم والشعوب والمنظمات الدولية المعنية بحماية التراث الحضاري وتخليد الذاكرة الأممية، فمثل هذه الملفات الوجودية المهمة ينبغي أن تنصرف إليها جهود النواب الأفاضل.

ومثلما دعا الكاتب قاسم حسين بعض نواب الإثارة والإلهاء الطائفي العقيم إلى عدم تطييف ملف مقابر عالي، فإنني أوجه النداء ذاته إلى هؤلاء «النواب» عسى أن يعلموا أن مقابر عالي هي تراث وطني وحضاري يتحمل أمانة الحفاظ عليه جميع أبناء الوطن، وإن كان لا أمل لدى هذه العصابة النيابية من ضحايا الاتجار بالبشر من أن يحدث تلاقٍ وطني على القضايا والملفات الوجودية والمصيرية، فليعلموا أن مقابر عالي تضم آثارا دلمونية وآثارا أخرى، والدلمونيون طبعا ليسوا بسنة أو شيعة، وهم لم يعرفوا مفردات «نواصب» و «روافض» ولم يكونوا قط «صفويين» أو «إخشيديين» أو «سلاجقة»!

وكما العادة أو المصادفة القدرية يأتي ذلك النهب المنظم للمخزون التراثي البحريني والسطو المتنفذ على الذاكرة الحضارية الذي فشلت أشهر عصابات سرقة الآثار العالمية في تحقيقه، والإفناء المتعمد للدور والفرق الشعبية في الوقت نفسه الذي تحظى فيه البحرين بشرف الدخول في دوامات التصنيفات العالمية في مجال التراث والآثار والفنون الشعبية، فبدلا من أن تتم الاستجابة لتلك التحديات الكبيرة عبر تكريس مساعٍ تستهدف المحافظة على ذات المواقع المحرزة وزيادة الاهتمام بالتراث والمواقع الأثرية والفنون الشعبية... نرى تفاقما مأساويا في أوضاع التراث الإنساني البحريني فيما فشلت الدولة في القيام بدورها في حماية التراث والمحافظة عليه، فأصبحت الفعاليات والمؤتمرات البروتوكولية المتباهية بإرث البحريني وإنجازاته الأمينة أشبه ما تكون بالعشاء الأخير للمسيح!

ولو أردنا سبر محاصيل التبعثر أو بالأحرى تواطؤ المسئوليات فيما جرى وما سيجري من وبال على التراث والثقافة البحرينية، فسيكون المدخل المناسب لكل ذلك هو التطرق إلى أزمات «قطاع الثقافة والتراث الوطني» المتعددة وعلى رأسها أزمات سوء الإدارة وانعدام التخطيط الاستراتيجي المتماسك بمراحله العملية المتتابعة، وقبلها معضلة الفهم الرئيسية بماهية الثقافة وعناصر تنميتها واستثمارها الفاعلة والحقيقية، فالثقافة لم تقتصر قط على صالون أو أكثر، ولم تنحبس معانيها الإنتاجية في «كتالوج» و «بروشر» بالغ الزخرفة والفخامة، أو إصدار قرص مدمج (سي دي) موسيقي أو استجلاب بضع باقات زهور باهظة الثمن فيما يعادل ثمن حقول زهور بأكملها من الصنف ذاته!

بمثل هذا الفهم السطحي والقاصر للثقافة يمكن أن نرادف حينها معنى الثقافة بمعنى الديكور والأثاث المنزلي والمقصورة والهودج قبل أن تكون هذه الثقافة الأم شجرة برية ومخزونا جوفيا تاريخيا وذاكرة جماعية وقيمة وجودية تمنح المعمار البشري وغيره حقيقته الأولى وصفته وخاصيته النوعية المميزة، فمثل هذه الأزمة الإدارية المستحكمة والعقلية المتصلبة والمزاج الأحادي المنبهر بالغرب حد الهستيريا، زادت من إهمال كل ما هو بحريني إن لم تتمكن من تحويله إلى دائرة الخاص واستبعاد العصي على الاستملاك والخوصصة الإقطاعية إلى متاهات الإهمال والضياع واليأس.

ففي مثل هذا القطاع، الذي يخوض حاليا معركته بين أن يكون قطاعا مؤسسيا أو مزرعة إقطاعية، أصبح العنصر والكادر والكفاءة البحرينية أمرا مستبعداَ ومستعبدا للأهواء والأمزجة التسلطية الواحدة، وانتقل بمفهوم «التفريغ» كدعوة إلى إطلاق وتنمية شذرات الإبداع وتفجير طاقاتها بمعزل عن ضغوطات الحياة المهنية وزحام مشاغلها، فأصبح هذا المفهوم (التفريغ المهني)، أقرب ما يكون بالإزاحة للعناصر غير المرغوب في بقائها، والتي لا تشبع هوس عقدة الأجنبي ولا تمتص بإخلاصها وإبداعها المنتج حمى الإفرنجي، وربما لو لم يكن المبدع والكفاءة البحرينية المستعبدة والمستبعدة على حد سواء من أماكن صنع القرار مدركا لسخرية القدر وحقيقة «المسخرة» التي تعيشها الثقافة ويعاني منها التراث الوطني لربما فقد الثقة بنفسه وبأصالة ما يبدع وينتج!

بالله عليكم، ما هي الكوادر البحرينية التي أنجزها هذا القطاع حاليا، ودعمها في دراساته العالية، وطعمها بالخبرة والمهارة التنافسية الراقية في مقابل «كوادر» و «خبرات» أجنبية تم تبنيها وخلق بعضها من عدم ومن فشل واستغناء من قبل الدول المجاورة!

الحق يقال، إن مثل تلك الأزمات الحادة التي يعاني منها القطاع وهي أزمات إدارة وتخطيط ووعي جعلت من هذا القطاع أشبه ما يكون بـ «اليخت» الفخم المبحر دونما أية بوصلة واتجاه نهائي محدد فيما يشبه الضياع والتيه في عالم من الأحلام والأوهام الوردية، ومثل تلك الأزمات الإدارية والمالية التي تفتقر للرؤية الصحيحة لا يمكن تعويضها أبدا بمهارات علاقات عامة وترويج متميزة ولو بلغت حد السحر والإعجاز، ولا يمكن أن يكون من اللائق الدفاع عنها بجوقات من المخدوعين والمطبلين و «الفريندز» والمنتفعين ممن لا يعرف كيف يصنع جملة عربية فصحى مقبولة منطقيا كما دأب على فعل وتسخير ذلك الكبار على أمل خادع ووهم كاذب بملء النقص الفادح في أساسيات التخطيط والإدارة!

وبما أنه أصبح من قدر القطاع بفضل أزماته المتراكمة أن يكون «يختا» فارها وتائها في البحار العاتية من دون بوصلة أو بحارة ضليعون بعلوم الملاحة، أوليس إذا من حق كل مثقف حريص على مصلحة هذا القطاع أن يتشاءم من مستقبل الثقافة والتراث الوطني في ظل هذا القطاع الذي أوشك أن يصبح بهيئة «الهيئة»؟!

لا أبالغ إن قلت إن هنالك من يتوقع لهذا القطاع وما يقع تحت مسئوليته من ثقافة وتراث وطني من مستقبل وقدر يشبه قدر «رقية» و «سبيكة» بعد عودتهما «المظفرة» من باريس، طالما تم تفريغ «ذياب دايخ» وصرفه من العمل ولكنه براتب!

فما الذي أنجزه هذا القطاع لصالح الثقافة والتراث الوطني وأخذ بالتالي يتباهى به بإسفاف أمام جميع منتقديه؟!

حتى نكون مجاملين سنقول إنه أنجز ثقافة الصالونات و «الكشتات» والحفلات المغلقة قبل أن يستحدث ويستثمر في بنية ثقافية وتراثية ذات أصالة بحرينية، اللهم إن لم تكن الصالونات والبيوت المغلقة والصالات الضيقة والديكور الموحش في بذخه هو دعامات وقواعد هذه البنية الثقافية التحتية الأساسية، وهي التي أدت بالتالي إلى تنخيب هذه الثقافة والتراث لا انتخابهما، وتلوينهما بلون إفرنجي طرد حميميتهما الأصيلة للبحريني والخليجي والعربي، وولد بالتالي الاغتراب والاستغراب لزائرهم، وقتل قبلهما الدور الاجتماعي الفاعل للثقافة، وأفرز مفهوما مبتذلا وسطحيا ومتجاوزا للاستثمار في الثقافة جعلها أشبه ما تكون بالجسد والسلعة الاستهلاكية التي يجري تقديمها على أطباق وموائد عولمية غرائبية بغية جني أكبر مبلغ ممكن من المال، ولم يكن «الاستثمار الثقافي» قط في أبجدية القطاع بمعنى الاستثمار في الكوادر والعناصر والمهارات البحرينية التي تقع خارج دائرة الأصدقاء والشلة!

«القطاع» إذا ما استصغر أمر ذاته المؤسسية وأصر على اعتبارها جناحا خاصا في أحد الفنادق الراقية يخص من استأجره لوحده، فإنما بذلك يبتدع ويهرطق بأسلوب جديد ومستحيل لفصل عملية التنمية الثقافية عن سيرورات التقدم الاجتماعي، وإذا نادى أصدقاؤه وطبالوه لـ «فزعة» محتملة ومعتادة ضد كل من ينتهك حرمه وخصوصية حكمه الذاتي فستكون «الأسلحة» و «الحجج» و «البراهين» المرفوعة ابتذالا هي وافر كمي لا نوعي لما تحقق ثقافيا وتراثيا، وهي في حد ذاتها نتاجا لمعايير سطحية تنبهر باللون لا المعنى، أو أنها معايير غائبة وخداع للنفس بالأحرى يبتغي المجاملة وتسيير المصالح الخاصة في دولة من المفترض أن تكون تحت سلطة القانون والمؤسسات!

وإن كنا لا ننكر أهمية الانفتاح على ثقافات العالم بشرط بناء وتنمية الثقافة الوطنية أولا والعناية بها جسديا وروحيا، وإن كنا بصدد الترميز لموقع ثقافة الصالونات والمؤتمرات والحفلات من الجسد العام للثقافة والتراث الوطني، فسنقول إن ما أنجزه القطاع للثقافة والتراث بعيدا عن «فلاشات» وومضات العلاقات العامة أشبه ما يكون رمزيا بتقديمه طلاء أظافر ذا ماركة عالمية راقية لإمرأة منزوعة الأضافر، أو تقديمه كحلا لامرأة عمياء ومنزوعة الرموش، فهل يعقل مثل ذلك السلوك والتصرف غير المدرك لعواقبه بالنسبة إلى أية رؤية موضوعية ومنطقية؟!

وهل سنجد مثيلا لتجربة وإنجازات القطاع المحلية يمكن مقارنتها منهجيا ونوعيا بتجارب وإنجازات الأقطار المجاورة على صعيد تنمية الثقافة والتراث الوطني وغيرها من الأقطار الإقليمية والعالمية سوى في المريخ، أو ربما في بلاد يكره ثقافتها وتراثها أهلها وساكنوها؟!

وحتى لا نظهر بمظهر غير لائق ونعكر المزاج بنقدنا المشروع ونحن على أعتاب مرحلة جديدة من المرجح أن يصبح فيها القطاع «هيئة» مستقلة، أو أن يتم تأميم هذا القطاع من «تبعية» الإعلام، فإننا وبالبحث في مختلف التجارب لإنشاء الهيئات والغايات العامة من تأسيسها، والتي تتراوح بين ترقية وتحرر التوجيه الإداري المستقل، وزيادة التخصصية النوعية للأداء، والتحرر من العراقيل والقيود البيروقراطية الثقيلة المعرقلة للمشروعات والطموحات في الدوائر الكبرى، إلى جانب التركيز على التخطيط الاستراتيجي العملي للتنمية والنهوض في مجال متخصص والتنسيق مع سائر الأطراف والجهات الأخرى في الدولة وخارجها!

يحق لنا أن نتساءل بالمعنى ذاته إن كان تحول هذا القطاع إلى هيئة سيكون تهيئا نوعيا فارقا ومميزا لمرحلة جديدة من العمل المؤسسي العام، أو أنه قد لا يختلف أبدا عن الإقرار لعقد خُلع شرعي بين الوزارة والقطاع، ليكون القطاع بذلك غانما ومحميا للمنهجية الإدارية والعقلية والمزاجية الأحادية ذاتها المفروضة على الجميع، فهو هيئة سابحة لوحدها في سبحانيتها وخصوصيتها الملغومة ربما مصداقا لقوله تعالى «إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» (البقرة: 229)!

فلا خلاف على أن الصراع القائم بين القطاع ووزارة الإعلام أشبه ما يكون بالصراع بين دولة الإقطاع ودولة المؤسسات والقانون، وقد أصبحت الثقافة والتراث الوطني ضمن رهائنهما؟!

وإننا لنخشى من أن تكون عملية بيع وتصفية آثار وتراث الوطن ضمن المنجزات الأولية المنسوبة مثلا لـ «إدارة الممتلكات» المحتملة، والتي ربما تكون معنية بالمواقع الأثرية، ولكنها قد تمارس بحكم الظرفية الإدارية والعقلية بيعا وتأجيرا و «استثمارا» ثقافيا لافتا، فحذارِ من «لعنة مقابر عالي» يا قطاع ويا وزارة ويا إقطاع ويا دولة!

إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"

العدد 1945 - الأربعاء 02 يناير 2008م الموافق 23 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً