منشأ كل المشكلات التي تعاني منها المجتمعات البشرية يعود في الأساس إلى سبب رئيس ولربما وحيد، ويصح أن يطلق عليه «أم المشكلات» المتمثل في ثقافة الاستحواذ.
النزعة الأحادية في السيطرة هي عامل انحراف المجتمعات، ففي أي مجتمع من المجتمعات حين تختلط الموازين والمقادير في المعادلات السائدة فما عليك إلا أن تفتش عن فئة الاستحواذ التي تحتكر الثروة أو السلطة أو كليهما.
هذه الثقافة هي التي تقود المجتمعات إلى مآسٍ، لأن المنظومة الاجتماعية في ظل النظام السياسي المحتكر للثروة والسلطة معرضة للتهاوي والسقوط بفعل اختلال التوازن المعقد الذي يحكم عملية التدافع الاجتماعي والحراك الدقيق الذي يحكم نسق القوى المختلفة.
مشكلة الاستحواذ ليست حديثة عهد، وإنما تتعدد أنماط الاستحواذ تبعا لطبيعة الحالة الاجتماعية، والتراث الإنساني يحدثنا عن مئات القصص والعبر التي يجب أن نستخلص منها مبدأ الشراكة في السلطة والثروة.
في أية بقعة جغرافية من الأرض، حين يطغى الاستحواذ ففي المقابل تجد الاضطهاد، لأن فئات من النسيج الاجتماعي لا تتمتع بحقها الطبيعي في المشاركة في إدارة شئونها أو الاستفادة من ثروات بلدانها.
وظل هذا العامل (السيطرة والاستحواذ) يشكل هاجسا أمام كل الفلاسفة، الذين سعوا إلى تخليص الإنسانية من هذه النزعة المستحكمة والمدمرة، فلجأ أفلاطون إلى مدينته الفاضلة، التي تقوم على أساس الخير والفضيلة، وبمقتضى هذا السلوك تتجه المدينة - تبعا لأفلاطون - إلى مفهوم العدالة، وهناك عشرات النظريات التي ما فتئت تبحث عن حل لهذه المعضلة التي لازمت التجربة البشرية منذ يومها الأول.
السلطة والثروة تعادل مفهوم (الصراع)، وفي حين نزع الفلاسفة إلى الفضائل، جنحت المرجعية السياسية في العالم المتحضر إلى فكرة الديمقراطية التي تعالج جوهر الصراع، عبر مشاركة الجميع في السلطة والثروة.
(صراع الثروة/السلطة) هيمّن لعقود طويلة على مجتمعاتنا، وأدى إلى حرمان شعوب الشرق الأوسط من فرصهم الحقيقية في التنمية، وساهم في فرض الديكتاتوريات العربية بغطاء دولي، وهذا التحالف هو الذي صنع - بشكل غير مباشر - كارثة 11 سبتمبر/أيلول، ولكن بعد هذا التاريخ غير القطب الواحد الذي يحكم العالم من طريقة تفكيره بل وحتى تعاطيه مع حقوق شعوب المنطقة، وتعالت في واشنطن ذاتها الأصوات المطالبة بالبحث عن جذور القضايا.
الحديث عن الاستقرار والتنمية أصبح مدعاة للسخرية في ظل استمرار النظم السياسية على عادتها القديمة، على رغم أن العالم تغير، وما كان بالأمس جديرا لإخماد المطالبات الشعبية بالإصلاح والعدالة الاجتماعية لم يعد ذا جدوى اليوم.
نحتاج إلى وقفة تأمل... مكاشفة حقيقة... حوار ذاتي... نحتاج إلى أن نعاتب أنفسنا ولنؤنب ضمائرنا، ونغير من نمط تفكيرنا كنظم سياسية، لنعطِ شعوبنا فسحة من الأمل بعد طريق طويل محاط بالظلامات، أمامنا طريق شاق من أجل تغيير المعادلات البالية والظالمة، ونحتاج إلى مؤسسات تعكس تمثيلا حقيقيا للناس، وكفى تدجينا للناس... نحتاج إلى إرادة العيش المشترك، ولكن لهذا الهدف ضريبة وضريبته الإصلاح الجذري التدريجي المبني على التوافق.
آن للحكومات العربية أن تُصغي للآخر... ولتكسر منطق الاستحواذ على قاعدة «هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَة وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ» (ص: 23)!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 1941 - السبت 29 ديسمبر 2007م الموافق 19 ذي الحجة 1428هـ