على خشبة مسرح (كازينو) لبنان يعرض الفنان منصور الرحباني مسرحيته الجيدة، وهي مسرحية غنائية بالغة الدلالة في هذا الوقت العربي العصيب، وتحمل عنوان (ملوك الطوائف) على افتراض أن حوادث تلك المسرحية تقع على أرض الأندلس العربية قبل أن يغادرها العرب مطرودين من ملوك الاسبان، وتشاء المصادفة أن يكون عدد ملوك الطوائف وقتها 22 ملكا، كعدد الدول العربية اليوم!
الإسقاطات في هذه المسرحية كثيرة ومتعددة التي يخرج بها المشاهد، بعد أن يحضر العمل الذي يمتد لثلاث ساعات تقريبا، مصحوبا بمجموعة رائعة من الأغاني واللوحات الفنية الراقصة والمغناة، تشدو فيها الجماعة في أحد المناظر الرائعة بالقول: (إذا راح الملك بيجي ملك غيره، وإذا راح الوطن ما في وطن غيره)!
هذه الجملة تواصلت في ذهني بتحقيق صحافي نقل من على أرض الواقع، كتبه أحد الصحافيين العرب الشبان، ونشر في صحيفة «الأهرام» القاهرية، في 11 الشهر الجاري، والكاتب هو طارق حسن. والتحقيق يتحدث عن الوطن الذي يكاد أن يذهب وعنوانه (أيام بغداد الأخيرة قبل أن تدوي المدافع) يصف فيه (وهو شاهد عيان) الوضع الذي وصل إليه الإنسان العراقي اليوم تحت ظل حكم الفرد، كثرة فقيرة معدمة، تفتقد الوطن في المعنى الرمزي له، وقلة متمتعة بزخرف الدنيا، وسلطان القوة تقوم بنحر الوطن على رؤوس الأشهاد، وذبح الوطن هو من مصادرة حق أفراده في الحرية من جهة أو تعريضه للمخاطر القاصمة من جهة أخرى.
وعلى كثرة ما كتب عن بغداد وأحوالها في الآونة الأخيرة، لم أقرأ لعربي أو أعجمي مثل هذا التحقيق النابض بالحياة والمعبر عن مشاهدات صحافي صادق مع نفسه، يصف الكاتب بقلم رشيق ما تتمتع به القلة في بغداد، ويناقش ما يحدث في منطقة «عرصات الهندية» ولم يكن قد مر بي هذ الإسم من قبل، وتبين انها إحدى مناطق بغداد، فيقول الكاتب، وأنا أنقل عنه من دون تحريف:
«إن منطقة عرصات الهندية تثير حزن وخوف أهالي بغداد، وعلى رغم أن المنطقة هي أحد أحياء بغداد القديمة، فإنها أصبحت تمثل قلعة للفئة التي يسميها أهل بغداد (أغنياء الحصار والحرب)، وتمثل هذه الفئة القاعدة التحتية لكبار رجال حزب البعث والحكومة والجيش في العراق، الذين يرمزون إليهم باسم التكارتة، نسبة إلى تكريت مسقط رأس صدام حسين، ومنبت عائلته المتحكمة بالبلاد الآن ومنذ سنوات طويلة».
ويذهب التحقيق ليقول «إن الأهالي يشيرون إلى بعض أسماء هذه الفئة، التي تحظى بكراهية من جانبهم، مثل طه ياسين رمضان وطارق عزيز ومحمد مهدي صالح» ثم يصف الكاتب ما يحدث في «عرصات الهندية» فيقول: «مع اقتراب ساعات الليل تبدأ عرصات الهندية في استعراضها اليومي والوحشي داخل بغداد، الشارع الذين يمتد طوليا يزدان بالأضواء، والألوان الفاقعة، ويزدحم بأفخم أنواع السيارات التي يهبط منها رجال وشبان صغار، الذين يرتدون من الملابس أرقى الموضات الأوروبية بمرافقة نساء تفوح منهن أغلى أنواع العطور الباريسية، وديكورات المحلات التجارية والمطاعم غربية، وبعضها بأسماء عربية، تبيع الملابس والأجهزة والسجاير وأنواع السيجار كافة باهظة الثمن»!
ويذهب الكاتب إلى القول: «عرصات الهندية ليست لها علاقة بالحصار، وتبدو منطقة محررة من القيود الثقيلة المفروضة على غالبية العراقيين، وخارجة عن قواعد الحملة الإيمانية التي يفرضها الرئيس العراقي على المواطنين منذ خمس سنوات تقريبا، ففي ساعات النهار يتسلل إليها فئات من الشباب بمصاحبة شابات لممارسة سلوكيات الحب والعشق داخل مطاعمها الساكنة، والتي لا يسأل القائمون عليها أحدا عن سلوكه، ومدى انسياقها مع الحملة الإيمانية للرئيس».
ثم يصف الكاتب رأي أهل بغداد في «عرصات الهندية» فيكتب: «بعض أهل بغداد يسمي عرصات الهندية نيويورك، ربما لأنه يعتقد أنها تماثل الحياة في تلك المدينة الأميركية الشهيرة، لكن العائلات البغدادية القديمة ذات الطابع المحافظ تطلق عليها اسم شيكاغو، المدينة الأميركية التي اشتهرت بسطوة العصابات المسلحة، وكنت أعتقد أن هذه الأوصاف مبالغات من الناس، حتى رأيت بنفسي شابا مصحوبا بشلة من الأولاد والبنات على مائدة بأحد مطاعم عرصات الهندية، ومسدساتهم محشوة تتدلى من خلف بنطلونات الجينز التي يرتدونها، وبعد رحيلهم أخذ صاحب المطعم يبث مر الشكوى من الشاب، إذ أخذ منه أشياء كثيرة من ممتلكات المطعم لأنها أعجبته، وليس بامكانه الاعتراض على رغباته، وعندما سألته من هو أجاب، أن أباه هو ابن عم الرئيس»!
ويصف الكاتب طارق حسن في تحقيقه المطول عن بغداد انه تعرف على أحد العراقيين الذي نصحه أن يلتقي به بعيدا عن الأعين حتى يريه بغداد الحقيقية، فقال له: عندما تأتيني لا تستأجر سيارة أجرة من السيارات التي تقف أمام الفندق، فهذه تابعة للمخابرات، وبعد مغامرة يصفها الكاتب بالتفصيل، يلتقي بصديقه الشاب الذي يأخذه إلى أحد أحياء بغداد الشعبية ليرى بعينه ويسمع بأذنه، فيقول الكاتب وأنا أنقل هنا حرفيا ما نشره في صحيفته العربية الواسعة الانتشار «وفي العبيدي (الحي الشعبي البغدادي) قابلت عراقيين لا يردفون اسم صدام حسين بدعاء حفظه الله ورعاه كما هو مفروض على ألسنة العراقيين بمجرد ذكر اسمه، انهم لا يعتبرونه أيضا سيد الكلمة كما تقول عنه صحيفة «الزوراء» التي يصدرها عدي صدام حسين، ولا سيد التحدي كما تصفه الصحف الرسمية، وليس كذلك بألقابه الرسمية كالمنصور بالله والمجاهد والمناضل، انه بالنسبة إليهم المسئول عن حياتهم البائسة، والقصص والروايات هنا أليمة ومشحونة بالحقد والكفر الوطني. سألوني هل تقيم في بغداد على حسابك أم تستضيفك الحكومة من أموالنا، فطمأنهم رفيقي أني لست من هذه الفئة، قالوا: لماذا يتظاهرون في الخارج؟ ان هذه المظاهرات لا تسأل إن كان صدام سيستمر في حكمه لنا هو وعائلته أم لا، فليأت الشيطان كي يخلصنا منه». لا أستطيع أن أنقل فيما أكتبه هنا كل ما نشره ذلك التحقيق الشجاع والموضوعي الذي نشره هذا الصحافي المصري الشاب، الذي فضل أن يمارس مهنته الحقيقية في نقل الصورة طبق الأصل لقرائه مما شاهد وسمع في بغداد في هذا الوقت العصيب، وهو كما قلت سابقا تحقيق نشر الأسبوع الماضي، وأشرت إلى تاريخه لمن يريد أن يستزيد، ولعلي أقول: إن الكاتب نقل الصورتين، صورة «البذخ» من جهة و«الفاقة» من جهة أخرى في بغداد اليوم، وهو ربط غير مباشر بما حدث لملوك الطوائف في الأندلس العربية التي شخصها منصور الرحباني في رائعته التي تعرض في بيروت. فحكم الطغاة عندما يزول العدل منه تزول مبررات بقائه، وعندما يذهب الحاكم يأتي حاكم غيره، ولكن عندما يذهب الوطن بحرمان مواطنيه من الحرية لا يوجد بديل عنه!
فهل يذهب (الملك في بغداد) ليبقى الوطن؟ ذلك سؤال المستقبل وليس سؤال التاريخ
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 193 - الإثنين 17 مارس 2003م الموافق 13 محرم 1424هـ