بدأ صادق بن الشيخ عبدالأمير الجمري يرافق والده منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي وشهد لقاءات للشيخ مع عدد من المسئولين وبعض أطراف المعارضة التي كانت تعقد في بداية التسعينيات، ثم في مرحلة الانفتاح عندما كثرت اللقاءات بدءا من 17 يناير/ كانون الأول 2001 إلى أبريل/ نيسان 2002، وذلك قبل سفر الشيخ الجمري لألمانيا.
ويروي صادق لـ «الوسط» شريط الذكريات، موضحا أن اللقاء الأكثر أهمية الذي يتذكره وكان بعد إصابة الشيخ عبدالأمير بالذبحة الصدرية في العام 2000 وكان الوضع الأمني سيئا حول البيت، والأمور كانت جدا صعبة... وكانت تتمثل في زيارة سمو الأمير (جلالة الملك) إلى الوالد في المستشفى العسكري، وقال عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حينها: إن شاء الله الأيام المقبلة ستكون سعيدة، وستسمع الأخبار الطيبة».
ويضيف صادق: «الوالد كان دائما متفائلا حتى في أيام السجن الانفرادي، وكان يقول الوضع سيئ ولا توجد غرف ولكن يجب أن نستحمل هذا الوضع... لأننا اخترنا هذا الطريق، والوالدة كانت شديدة بأس. وفي العام 2000 أيضا زار سمو رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة الوالد في المستشفى العسكري، وكان سموه يتكلم عن علاقته بالوالد في المجلس الوطني».
يقول صادق إنه «بين يوليو/ تموز وسبتمبر/ أيلول 2000 تفاجأنا ببعض الأمور، والمفاجأة الأكبر أن بعض أطراف المخابرات لم تكن تعلمها، وجرى اتصال من شخصية رفيعة المستوى وطلبوا مني ترتيب لقاء في نهاية أغسطس/ آب، كما طلبوا مني أن أدعو الوالد إلى اللقاء، وهو بدوره لم يرفض، وأخذت الوالد، وكانت مشكلتنا أن المخابرات لم تكن تسمح له بالخروج إلا في أماكن معينة لا تتجاوز أربعة بيوت».
فعلا ذهبنا إلى بيت هذا الشخص رفيع المستوى، وعندما حضر كان الترحاب عاليا، وهذا الشخص كانت تربطه بالوالد علاقة قديمة سبقت الحوادث الأمنية، وكانا يكنان الاحترام لبعضهما البعض، وذكر للوالد أن «سمو الأمير سيبدأ خطوات ايجابية للإصلاح وهو يأمل في تفاعلكم مع هذه الخطوات»... وكان رد الوالد «سأخدم البلد بما يتناسب مع وضعي».
ويوضح الجمري أنه «في بداية النصف الأخير من العام 2000 أعلن حينها عن إجراء انتخابات بلدية مباشرة، وهنا بدأت أول مبادرة من قبل الوالد، فصاغ رسالة إلى سمو الأمير مباشرة، وشاور فيها مجموعة من الأشخاص، حيا فيها سموه على هذه الخطوة وشكر القيادة وتمنى أن تتبع هذه الخطوة خطوات أخرى، ولكن واجهتنا عقبة إيصال هذه الرسالة»، ووجدنا الحل عند مستشار جلالة الملك حسن فخرو الذي تردد في المرة الأولى حينما أخبرناه بالموضوع مع الاستشاري علي العرادي، ولكنه قبل في النهاية، وسلمناه الرسالة في منزله بعالي، وهو بدوره أوصلها لسمو الأمير».
ولم يمر يوم واحد حتى اتصل بنا حسن فخرو، وأبلغنا أن سمو الأمير كان مسرورا بالرسالة، وقرأها في الطائرة أثناء توجهه للدوحة في نهاية الأسبوع، ووجه لنا فخرو دعوة للقاء سمو الأمير في يوم العيد الذي كان في صبيحة اليوم الذي تلا العطلة مباشرة.
المخابرات لم تبارح الوالد حتى أثناء توجهنا إلى القصر لمقابلة سمو الأمير، وعند وصولنا القصر تفاجأ الجميع بالاستقبال الكبير الذي قابل به سمو الأمير الوالد، والتلفزيون لم يكن يبث كل اللقطات، وكان الترحيب عاليا، وقال «أهنيك يا سمو الأمير بالعيد وأشكرك على هذه المبادرة وأتوسم فيك الخير، وشعب البحرين يستحق أكثر»، وكان جوابه سموه: «سترون أياما أجمل في الطريق».
وبخلاف الفترة السابقة مر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2000 ولم يحدث أي تطور ايجابي، ولم تحدث أية مبادرات في هذه الفترة، وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه جرى تحرك من بعض الشخصيات المحسوبة على السلطة التي لم يرتح الوالد لأسلوبها، وتأزمت الأمور أكثر، وفي هذه المرحلة كان الوضع أوشك على الانهيار، وبدأ الوالد يتخذ موقفا متصلبا بعكس المرونة الكبيرة التي أبداها في التفاعل سابقا.
ومن ضمن المحطات المهمة في هذه الفترة طلب وزير الداخلية مقابلة الوالد، مضيفا: «استجاب الوالد فعلا، فزار وزير الداخلية الذي كان مع عدد من كبار مسئولي الوزارة، وكانت معاملتهم طيبة». وقال الوزير للوالد: «إن سمو الأمير طرح مشروع ميثاق العمل الوطني (...) الوالد قابلهم بأخلاق طيبة ولكن لم يكن متجاوبا مع ما طرحوه، لقناعته بأن الحوار يجب أن يكون مع رجال السياسة وليس رجال الأمن، وكان يكرر أنه لا يحب تكرار ما حدث في فترة المبادرة».
ويضيف الجمري مستذكرا تلك المرحلة: «الجو السياسي أصبح متلبدا بالغيوم، بسبب وجود بعض التأزم أو لنسمِّه عدم اندفاع الأمور إلى الأمام، وعمت حالة من عدم الارتياح مصحوبة بالتوجس العام بهذا الركود، والوالد كان يفكر في الخروج من هذا المنعطف بسلام من أجل المضي قدما في مشروع التوافق الوطني والإصلاح السياسي».
ويشير صادق إلى أن الشيخ الجمري اتصل في هذه الفترة بمستشار سمو الأمير حسن فخرو مرة أخرى لمعرفة حقيقة التحركات، واجتمع مع الوالد فعلا، مردفا: «زارنا فخرو في المنزل وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة (قبل صلاة الظهر)، ونقل للوالد تحيات سمو الأمير، وكان هذا اللقاء الأول في منتصف يناير 2001، وكان في قمة الايجابية، وبشّر بخطوات مقبلة، وفخرو ترك انطباعا طيبا عند الوالد، وارتاح معه كثيرا، لكن الوالد كان يحبذ التعامل عبر قناة حسن فخرو، لأنه شعر فيه الصدق».
واللقاء الآخر بين سمو الأمير والوالد كان يوم السبت في أواخر شهر يناير، والتقى سمو الأمير في قصر الصافرية، وكان الأمير جالسا في النصف، وكان على يساره وزير العدل والشئون الإسلامية حينها الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة والوزير جواد العريض وقضاة محكمة الاستئناف العليا الجعفرية، الشيخ سليمان المدني والشيخ أحمد العصفور بالإضافة إلى محمدعلي الستري ورئيس محكمة الاستئناف العليا السنية الشيخ يوسف الصديقي، وأثنى سمو الأمير على دور علماء الدين في خدمة المجتمع، وعقّب كل من الشيخ سليمان والوالد بكلام عام».
عند خروجنا من القصر تحدث الوالد لسمو الأمير، وقال له: «سموكم تعرفون انني رجل صريح»، ورد عليه سمو الأمير: «شيخ عبدالامير أنا استمعت لكل خطبك منذ السبعينيات حتى الآن، وأعرف اعتدالك وحكمتك»، فتابع الوالد: «نحن محتاجون إلى خطوات لتهيئة الأجواء»، وسأل الشيخ سمو الأمير: «هل سيتم الإفراج عن المسجونين؟»، وأجابه سموه بـ «نعم»، وعقب الشيخ «وحتى المحكومين؟»، فقال سموه «نعم»، وقال «حتى أستاذ حسن مشيمع وأستاذ عبدالوهاب»، فقال سموه: «شيخ عبدالأمير كلهم سيخرجون في 5 فبراير»... خرج الوالد مستبشرا من اللقاء، ولم يكن يصدق هذا الحلم، لأنه كان يحمل هم المعتقلين، وأراد أن يخبر الناس بما جرى.
وقد لا يصدق أحد أنه حتى بعد هذا اللقاء تفاجأنا بأن المخابرات لم تتحرك من محيط البيت على رغم اللقاء بسمو الأمير (...) اتصلنا بحسن فخرو وذكرنا له أن المخابرات مازالت موجودة، وبعد الاتصالات خف تواجدهم بعد أن جرت اتصالات مع الديوان مباشرة.
ومنذ لقائه سمو الأمير صلى الشيخ الجمري ثلاث صلوات جمعة في جامع الإمام زين العابدين (ع) قبل خروج المسجونين، وتميزت الصلوات بحضور جماهيري واسع لم يسبق له مثيل بني جمرة، وكنا نفرش الشوارع المحيطة بالمسجد... لقد كان منظرا رهيبا، وبدأت تتكثف الاتصالات لتذليل بعض العقبات بسبب تصرفات رجال الأمن، وقال الشيخ عبدالأمير لحسن فخرو سأخطب بعد 5 فبراير، وكان يتحدث عن جهة التشريع، فأجاب فخرو بأنها ستكون للسلطة المنتخبة.
ويضيف الجمري أنه في هذه الفترة برزت شخصيات أصبح لها حضور مهم، وهي شخصيات وسطية ولها اتصالات ببعض رجالات السلطة، وكانت تحاول تذليل الصعاب مثل الشيخ علي العريبي بدرجة أولى ثم المستشار القانوني حسن رضي والناشط عبدالعزيز أبل، وكانوا يحاولون دفع الأمور قدما إلى الأمام، وهؤلاء الثلاثة كانوا يبدون آراءهم للوالد، وبفضل هذه الجهود أزيلت القيود الأمنية بنسبة 90 في المئة، وكان الوالد يكثر من لقاء الناس أكثر بشكل واسع وملفت جدا.
ويشير الجمري إلى دور السيد عبدالله الغريفي في هذه الفترة في دعم مواقف الوالد، بل عقد اجتماعا موسعا مع عدد كبير من رجال الدين في بيتنا قبل خطبة الشيخ التاريخية، والغريفي أطلعهم على مشروع الميثاق، وكان بحضور مجموعة واسعة من علماء الدين العائدين من قم وبعض من كانوا يصلون الجماعة، واتفق معهم على أن «القول ما قال الجمري».
وأتذكر أن هذا الاجتماع كان في صبيحة الخميس، بعد يوم من الإفراج عن الناشطين حسن مشيمع وعبدالوهاب حسين، وفي الوقت نفسه كانت للوالد اتصالاته بلجنة العريضة وجماعة المبادرة وجماعة لندن وجماعة قم، وكان ذلك اليوم طويلا جدا أكثر من أي يوم آخر، وبعضهم كان يبدي موقفا متصلبا.
وقبل صلاة المغرب بخمس دقائق، اتصل بي الشيخ علي العريبي، وقال: «صادق تعال ضروري»، وذهبت إلى بيت الوالد وكان السيد عبدالله الغريفي موجودا وعلي العريبي وعبدالوهاب حسين بالإضافة إلى الوالد الذي طلب مني ترتيب لقاء عاجل مع سمو الأمير، واتصلت بحسن فخرو، وأخبرته بطلب الوالد (...) وبعد خمس دقائق اتصل حسن فخرو، وقال «صادق تعالوا فورا».
بعد الصلاة ذهب الأربعة إلى قصر الصافرية وكان حاضرا في اللقاء سمو الأمير والوزير جواد العريض، وتحدث الوالد موجها خطابه لسمو الأمير: «تدارسنا الميثاق، والصورة أصبحت واضحة، ونحن مطمئنون»، وفي هذه الأثناء تدخل السيد عبدالله الغريفي قائلا: «يا سمو الأمير بقيت نافذتان نحب إغلاقهما ليكتمل البناء»، وكانت نبرة السيد الغريفي هادئة وايجابية، وكان يرمز بالنوافذ والبيت إلى التوافق الوطني، وطلب توثيق ما تم الاتفاق عليه، وفعلا خرج التصريح الشهير لرئيس لجنة الميثاق الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة بأن «مجلس الشورى سيكون لإبداء الرأي ولكن التشريع سيكون لمجلس النواب»، وتصدر هذا التصريح المهم الصفحات الأولى في الصحف.
وفي ظهر اليوم الثاني خطب المرحوم الوالد خطبته الشهيرة في جامع الإمام الصادق(ع) الدراز، والتي خاطب فيها الجموع المحتشدة من آلاف المصلين بعبارته التاريخية: «يشهد الله لقد اشتقت لكم اشتياق يعقوب إلى يوسف»، وكان الجو مشحونا بين الألم والأمل، ثم طلب الوالد من الأستاذ عبدالوهاب تلاوة موقفه من الميثاق، وبعد هذا الخطاب تسارعت الأمور والاتصالات، وكانت السلطة تتجاوب مع مطالب الناس الحياتية.
وينوه الجمري إلى حدث مهم آخر في تلك الفترة تمثل في زيارة الشيخ الجمري إلى سمو رئيس الوزراء في دار الحكومة وحضر اللقاء السيد عبدالله الغريفي والشيخ علي العريبي والأستاذ عبدالوهاب حسين، وأذكر أنه حتى هذه الفترة لم تتوقف محكمة أمن الدولة قانونا على الأقل.
كان اللقاء مع سمو رئيس الوزراء وديا وجديا، وتحدث بحضور الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة عن ذكرياته مع الوالد في المجلس الوطني، وقال سموه «أحب أبشرك أبوجميل أننا سنتخذ اليوم قرارا بإنهاء قانون أمن الدولة»، ومعروف عن الوالد أنه كان يتحكم بانفعالاته عدا هذه المرة، فأمام رئيس الوزراء استبشر الوالد خيرا ورفع يديه بالدعاء، ووعد سموه بمنح الجنسية لكل البدون، وكان صدى اللقاء ايجابيا جدا، واتصل ببعض الوجهاء المهتمين بشأن الجوازات... ويختتم صادق قائلا: «كان الشيخ محبوبا ومقدرا لأنه كان صادقا مع نفسه ومع السلطة ومع الناس».
العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ