في لقاء مع وفد يمثل منظمة العمل الدولية (ILO) شرع أحد أعضاء الوفد يتحدث عن العمل اللائق الذي يحقق الكرامة للعامل، باعتباره هدفا تسعى إليه هذه المنظمة الدولية. وأثناء حديثه، قمت باسترجاع بعض المناظر المتكررة لمجموعات متعددة من العاطلين والعاطلات ممن تخرجوا من الجامعات وهم يراجعون المسئولين عن التوظيف في كثير من وزارات الدولة وهيئاتها الحكومية، أو هم يحملون قضيتهم إلى أحد النواب، أو هم يعتصمون ويناشدون المسئولين والقيادة السياسية إيجاد حل لقضيتهم، وقلت لنفسي: كيف يمكن ضمان العمل اللائق الذي يوفر الكرامة الإنسانية وقد أهدر المجتمع كرامة نخب المجتمع قبل أن يحصلوا على فرصة العمل؟ وتجرأت على نفسي لأسألها السؤال الآتي: هل يرجع تعطل الجامعيين إلى قصور فيهم أم أنه يرجع إلى تقصير المجتمع بكل مؤسساته في حقهم؟
والحديث الصريح بات يتحدث عن نحو ألفي عاطل جامعي غالبيتهم من الإناث، ومن الأسر ذات الدخل المحدود، ومن تخصصات معظمها في مجال العلوم الإنسانية، وبعض هؤلاء مر على تخرجه عشر سنوات، كان يتنقل خلالها بين مسئولي التوظيف في الوزارات المختلفة، ومسئولي التعطل في وزارة العمل، ويقدم اختبارا هنا ويجري مقابلة هناك، والنتيجة لا عمل.
لقد التقيت الكثير من هؤلاء العاطلين، ولمست اليأس في نفوسهم، بل لمست عند بعضهم الشعور بأن المجتمع قد تخلى عنهم ورماهم إلى قدرهم المنكوب. وقرأت أفكار بعضهم أن لا جدوى من أية محاولة يقوم بها النواب لحل مشكلة العاطلين الجامعيين، ولم نعد نسمع منكم إلا الكلام والوعود من دون جدوى. وبعبارة مختصرة، إن شعورهم بأن المجتمع - بقياداته ومسئوليه - لم يعود يهتم بهذا النوع من العاطلين.
آخر اعتصام لبعض هؤلاء الجامعيين كان أمام بوابة مجلس النواب، وحقيقة اتسم سلوكهم بالتحضر، وسلموا رسالة مكتوبة طلبوا من مجلس النواب قراءتها في الجلسة الأسبوعية التي كانت منعقدة، واستجاب المجلس لطلبهم، وقرئت الرسالة، وضمت إلى مضبطة المجلس في جلسة يوم الثلثاء الموافق 20 نوفمبر/ تشرين الأول2007م، وفي تلك الرسالة كانوا يناشدون ممثلي الشعب المنتخبين أن يتبنوا قضيتهم، وينقذوهم من البؤس واليأس اللذين يخيمان عليهم. وتصوروا أن مجرد استجابة مجلس النواب لطلبهم بقراءة الرسالة كانت مبعثا للارتياح لديهم.
وأقول للعلم فقط: إن كتلة الوفاق النيابية - بمساندة كبيرة من الكتل النيابية وكل نواب المجلس - قدمت مقترحا برغبة بصفة الاستعجال يقضي بتوظيف هؤلاء الجامعيين، أو بمنحهم علاوة تعطل تساوي 300 دينار، ولم يكن رد الحكومة على هذا المقترح مشجعا، ولكن المشجع كان تشكيل لجنة وزارية بتوجيه من رئيس الوزراء سمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة؛ لتدارس أمر توظيف هؤلاء العاطلين الجامعيين. ومما بعث الأمل في نفوس هؤلاء العاطلين ورود أنباء باهتمام رئيس الحكومة شخصيا بالأمر، ومتابعته له، وحثه المستمر وزير العمل على الإسراع في إنجاز الدراسة التي كلفت بها اللجنة الوزارية المشكلة لهذا الغرض. ولايزال هذا الأمل حيا في نفوس هؤلاء، وشخصيا أتلقى في اليوم الواحد عشرات المكالمات تدور كلها حول مضمون واحد: أين وصل موضوع العاطلين الجامعيين؟ والإجابة واحدة: إن الأمل موجود، ونحن نتابع الموضوع، ونسأل الله التوفيق، ولا نزيد على ذلك.
ونعلم بعد كل المتابعات الطويلة والحثيثة الآن أن توظيف هؤلاء العاطلين الجامعيين يحتاج إلى قرار حاسم من القيادة العليا ولن يتمكن وزير بمفرده أن يحقق ذلك. كما أننا نعلم أن إعادة تأهيل وتدريب بعضهم للوظائف اللائقة أمر ضروري، وقد قدمنا تصورا أوليا بذلك. ومازلنا نرتجي أن يتحقق حلم هؤلاء بالحصول على الوظيفة اللائقة التي تحفظ كرامتهم، وتصون ماء وجوههم.
لقد كتبت رسالة إلى رئيس الوزراء قبل فترة، ولست متيقنا من وصول هذه الرسالة فعلا، ومما جاء في هذه الرسالة الآتي:
«لا شيء، يفتخر به الوطن أفضل من افتخاره بأبنائه وبناته الجادين الحريصين على إعلاء راية وطنهم والنهوض به بين الأمم، ولا شيء في هذا الافتخار أفضل من نخبة تشق طريقها للتقدم من خلال الجامعات والمعاهد العلمية المتخصصة؛ لتحرز الشهادات العلمية المتقدمة.
والتاريخ يشهد للحكومة حرصها الكبير على تشجيع العلم، وتكريم المتعلمين، ولعلي أتذكر إصراركم على تكريم أعداد كبيرة من خريجي جامعة البحرين تزيد عن الألف، ووقوفكم لساعات طويلة مصرين على أن ينال هذا التكريم كل متخرج.
إننا اليوم أمام مشكلة، لا يمكن حلها إلا من خلال قرار جريء، ولا يمكن أن يتخذ هذا القرار إلا من خلال القيادة السياسية العليا، فلقد حاولنا مع كثير من وزارات المملكة المعنية بهذه المشكلة، ولم نجد لها حلا. وملخص المشكلة هو أن عددا كبيرا من المواطنين، ممن حظوا بتكريم الحكومة في عدد من احتفالات التخرج التي نظمتها جامعة البحرين، في تخصصات علمية متعددة، قد مضى على تخرجهم سنوات كثيرة وهم يبحثون عن فرصة العمل المناسبة التي تمكنهم من الحياة الكريمة، وتهيئ لهم الاستقرار والأمن المعيشي. وقد حفت أقدامهم بين الوزارات المختلفة يسجلون هنا، ويستفسرون هناك، علهم يجدون الفرج في وظيفة مناسبة.
إن غالبية هؤلاء المتخرجين هم من الإناث، وجلهم من أسر فقيرة محدودة الدخل بذلت كل ما تملكه في سبيل تعليم أبنائها وبناتها؛ من أجل الخروج من مستنقع الفقر وظلمات الجهل. ولكن الإحباط قد تمكن منهم الآن، ودب اليأس إلى نفوسهم، وضاقت الدنيا في عيونهم، وسؤالهم الذي يرددونه هو ما ذنبنا؟ نحن المواطنون الذين تعبنا وسهرنا الليالي لنحصل على الشهادات الجامعية، فإذا بنا محل ازدراء الجميع، والجواب يطاردنا، لا نفع يرتجى من شهاداتكم. وإنني من حكم المسئولية الملقاة على عاتقي باعتباري نائبا منتخبا من الشعب؛ وكوني أحد المواطنين الذين يحسون بآلام الآخرين؛ ولأنني أكاديمي أعرف المعاناة التي يتحمّلها الطالب لكي يكمل مسيرة التخرج، أتقدم لرئيس الحكومة بتصوّر لحل مشكلة هؤلاء العاطلين الجامعيين، متيقنا أنكم لن تألو جَهْدا في حلها، لما هو معروف عنكم من سرعة استجابتكم لنداءات الاستغاثة التي يوجهها المواطنون».
وهكذا أجد نفسي أكرر تلك الرسالة لرئيس الوزراء وهو صاحب القرار الفصل، وأجد في نفسي إلحاحا أكبرَ لمعالجة موضوع هؤلاء العاطلين الجامعيين؛ لئلا أكون ممن تخلى عن هؤلاء وتركهم مع مصيرهم اليائس، والأمل معقود بالله أولا، ثم بالقيادة السياسية صاحبة القرار
إقرأ أيضا لـ "عبدعلي محمد حسن "العدد 1917 - الأربعاء 05 ديسمبر 2007م الموافق 25 ذي القعدة 1428هـ