يعتبر الفصل التاسع من تقرير «جيو 4» أحد أهم فصول التقرير؛ إذ يحتوي هذا الفصل، والمسمى «المستقبل اليوم» (The Future Today) على سيناريوهات مستقبل البيئة العالمية حتى العام 2050، وتستكشف هذه السيناريوهات المستقبل المشترك للمجتمع العالمي من وجهة النظر البيئية، وتأثير خيارات أسلوب الحياة والاستجابات اللازمة للتصدي للتحديات المختلفة التي تواجه البيئة العالمية، وتتقصى السيناريوهات كيفية تأثير الاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الراهنة على امتداد مسارات التنمية المختلفة في المستقبل، والتأثيرات المحتملة لكل مسار على البيئة ورفاهية البشر والتنمية.
ويطرح التقرير أربعة سيناريوهات متباينة وهي «الأسواق أولا»، و «السياسات أولا»، و «الأمن أولا»، و «الاستدامة أولا». وفي سيناريو «الأسواق أولا» يتم التركيز بشكل ضيق على استدامة الأسواق وتحقيق أقصى نمو اقتصادي (النمو الاقتصادي بأي ثمن)، وليس على سياق النظام البيئي البشري الأوسع، على أنه أفضل خيار لرفع مستوى رفاهية البشر وتحسين البيئة، على أساس أن آلية الأسواق لديها القدرة على تحقيق ذلك. ويتم في هذا السيناريو إيلاء اهتمام قليل جدا بنموذج التنمية المستدامة الذي يمثل وجهة نظر تقرير برنتلاند (التوازن بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية والحفاظ على البيئة واستخدام الموارد الطبيعية بعقلانية لخدمة احتياجات الجيل الحالي من دون التضحية باحتياجات الأجيال القادمة) وجدول أعمال القرن الحادي والعشرين والقرارات السياسية البيئية الأخرى في هذا المجال.
أما في سيناريو «السياسات أولا» فيتم التدخل في سيناريو «الأسواق أولا» واتخاذ التدابير والإجراءات الرامية إلى النهوض بالتنمية المستدامة وتقليل التأثيرات الجانبية غير المرغوب فيها على الإنسان والبيئة الناتجة من قوى السوق، إلا أن الانحياز نحو السياسات الاقتصادية والاعتبارات الاجتماعية والسياسية في مقابل السياسات البيئية يستمر كما في السيناريو الأول.
وفي السيناريو الثالث «الأمن أولا» يتم التركيز على مصالح الأقليات الحاكمة سواء كانت غنية أو قومية أو إقليمية، ولا ينظر إلى التنمية المستدامة إلا في سياق تعظيم فرص الوصول إلى البيئة واستخدامها من قبل ذوي النفوذ والسلطة. وفي هذا السيناريو يكون هناك تحالف بين الحكومة مع القطاع الخاص، ويكون المجتمع المدني مهمشا ويتم اتخاذ القرارات بمعزل عنه.
وفي السيناريو الرابع، المسمى «الاستدامة أولا»، تكون هناك شراكة فاعلة وتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لتحسين البيئة التي يعيش فيها المجتمع ورفع مستوى رفاهية الإنسان للجميع، مع التركيز على العدالة والمساءلة والشفافية، ويتم اتخاذ القرارات بمشاركة الأطراف الثلاثة الفاعلة في المجتمع. وفي هذا السيناريو يُعطى وزن متساوٍ للسياسات البيئية والسياسات الاجتماعية الاقتصادية ويتم العمل ضمن خطاب البيئة للتنمية والسعي إلى تحقيق مبادئه.
وبتحليل التغيرات واتجاهات القوى المحركة عبر السيناريوهات فإن عدد سكان العالم سيستمر في الزيادة في جميع السيناريوهات، وسيصل عدد سكان العالم عند أعلى مستوى إلى نحو 9.7 مليارات نسمة بحلول العام 2050 في سيناريو «الأمن أولا»، وفي سيناريو «الاستدامة أولا» سيكون عدد سكان العالم أقل قليلا من 8 مليارات نسمة في العام 2050. ويتوقع سيناريوها «السياسات أولا» و «الأسواق أولا» أن يصل سكان العالم إلى 8.6 و9.2 مليارات نسمة، على التوالي. وينمو النشاط الاقتصادي العالمي نموا كبيرا خلال فترة السيناريوهات، وخصوصا أثناء سيناريوهي «السوق أولا» و «السياسات أولا»، وكلاهما يتوقع تحقيق زيادة تقرب من خمسة أمثال في الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وفي سيناريو «الأمن أولا» يزيد النشاط الاقتصادي بنحو ثلاثة أمثال ذلك.
أما بالنسبة إلى استهلاك الطاقة، فمن المتوقع أن يزداد استخدام الطاقة في جميع السيناريوهات، يحركه في الأساس الاستخدام المكثف للطاقة في البلدان المنخفضة الدخل، بَيْد أن نصيب الفرد من استخدام الطاقة في البلدان مرتفعة الدخل يظل عند مستوى أعلى منه في البلدان منخفضة الدخل. وسيزيد استخدام مصادر الطاقة الأولية - أي: الوقود الإحفوري والوقود النووي والطاقة الشمسية وطاقة الرياح وطاقة المد والجزر والطاقة الأرضية الحرارية - في جميع السيناريوهات، وسيظل الوقود الإحفوري المهيمن على إمدادات الطاقة في السيناريوهات الأربعة حتى العام 2050.
وعلى المستوى العالمي، إن استخدام الطاقة سيتحكم في الانبعاثات الغازية سواء تلك المؤدية إلى تلوث الهواء أو تلك المتعلقة بتغير المناخ، وستتأثر العلاقة بين الاستخدام الكلي للطاقة وهذه الانبعاثات الغازية بالكثير من العوامل وخصوصا السياسات الحكومية الموجهة نحو التحكم في الانبعاثات. ويشير تحليل السيناريوهات إلى أن باستثناء سيناريو «الأمن أولا»، الذي يتضمن عدم اهتمام الدول بالتحكم في الانبعاثات، فإن الانبعاثات الغازية الملوثة الكلية ستقل، وسيكون سيناريو «الاستدامة أولا» أكثرها انخفاضا؛ بسبب عاملين هما السياسات القوية الرامية إلى خفض الانبعاثات لوحدة استخدام الطاقة، والنمو البطيء نسبيا في استخدام الطاقة والتحول العام إلى الطاقة النظيفة.
أما بالنسبة إلى انبعاثات غازات تغير المناخ فسيكون سيناريو «السوق أولا» الأعلى بين السيناريوهات؛ بسبب زيادة استخدام الطاقة المصاحب للنمو الاقتصادي المتسارع في هذا السيناريو؛ وكذلك بسبب عدم تطبيق السياسات المطلوبة لتخفيف هذه الانبعاثات. وبسبب ذلك سيكون تركيز ثاني أكسيد الكربون في الهواء في هذا السيناريو الأعلى بين السيناريوهات الأربعة، ليزيد من نحو 370 جزءا في المليون حاليا إلى أكثر من 550 جزءا في المليون بحلول العام 2050.
وتشير جميع السيناريوهات إلى استمرار ارتفاع درجة حرارة الأرض سواء تم خفض الانبعاثات الغازية أو لا، إذ من المتوقع أن ترتفع نحو 2.2 درجة مئوية في سيناريو «السوق أولا» وإلى نحو 1.7 درجة مئوية في سيناريو «الاستدامة أولا»، كما دلت نماذج المحاكاة على ارتفاع في مستوى سطح البحر يبلغ نحو 30 سنتيمترا في العام 2050 في جميع السيناريوهات مع اختلافات بسيطة جدا بينها؛ وذلك بسبب أن عملية تمدد مياه المحيطات وذوبان الجليد هي عملية بطيئة جدا وذات فترات استجابة طويلة نسبيا، ولذلك فتقليل الانبعاثات الغازية حاليا أو مستقبلا لن يكون له التأثير المعنوي الكبير على المدى الزمني الخاص بالسيناريوهات (50 عاما). ويعني ذلك زيادة مخاطر وأضرار ارتفاع مستوى سطح البحر وخصوصا في حالات العواصف وتسريع عملية النحت الساحلي والتأثيرات الأخرى للمناطق الساحلية؛ بسبب غمر مياه البحر لها.
يستكمل المقال القادم سيناريوهات مستقبل البيئة العالمية بالنسبة إلى الأراضي وإنتاج الغذاء والمياه والتنوع الحيوي وأهم الدروس والرسائل التي تم استنتاجها من السيناريوهات.
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1913 - السبت 01 ديسمبر 2007م الموافق 21 ذي القعدة 1428هـ