كما أشرنا، شهدت الاقتصادات العربية تجارب عدة بحثا عن تحقيق درجات متقدّمة من التكامل الاقتصادي، وأبرز ما توصّلت إليه في هذا الإطار هو إنشاء منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى التي يجري العمل على تنفيذها بموجب البرنامج التنفيذي لاتفاقية تيسير وتنمية النشاط التجاري بين الدول العربية الذي أقرّه المجلس الاقتصادي والاجتماعي في دورته العادية التاسعة والخمسين التي عُقدت في القاهرة بتاريخ 16 فبراير/ شباط 1997.
وتمّت مباشرة التنفيذ ابتداء من مطلع العام 1998 على أن يتمّ خفض الرسوم الجمركية على السلع العربية المتبادلة بمعدّل 10 في المئة سنويا بحيث يتمّ تحرير تبادل السلع العربية كاملة مطلع العام 2007.
لكن تنفيذا لقرار القمّة العربية رقم 212 بتاريخ 28/3/2001 وقرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي رقم 1417/1 بتاريخ 12/9/2001 في شأن تقليص الفترة الزمنية للبرنامج التنفيذي لتطبيق منطقة التجارة الحرّة العربية الكبرى، صدر بتاريخ 13/2/2002 القرار رقم 1431 الذي قضى بخفض الرسوم الجمركية والرسوم ذات الوقع المماثل سنويا 10 في المئة ابتداء من 1/1/2003، 20 في المئة ابتداء من 1/1/2004 و20 في المئة ابتداء من 1/1/2005.
على رغم كل تلك الجهود وما رافقها من قرارات وتوصيات اتخذتها جهات تجلس على قمة مؤسسات صنع القرار العربي، تواجه التجارة العربية البينية معوقات كثيرة.
إن أحدا لا يستطيع أن ينكر كون تنمية هذه التجارة من الأهداف الرئيسية التي سعت إلى تحقيقها برامج وخطط التعاون الاقتصادي العربي المشترك منذ تأسيس جامعة الدول العربية. ولعل أحد الظواهر التي تستطيع أن تفسر حالة التجارة العربية البينية، هو أن الدول العربية لاتزال عاجزة عن اللحاق بركب الاقتصاد العالمي والعولمة، فحصتها من الناتج العالمي الإجمالي لا تتعدى 2.2 في المئة، وتقتصر مساهمتها في التجارة العالمية على3.2 في المئة.
كما تتميز هذه الدول بانخفاض معدلات النمو الاقتصادي وتزايد معدلات البطالة، وهناك شبه غياب لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ففي العام 2002 استقطبت 5.4 مليارات دولار أميركي، ما يشكل 7 في المئة فقط من إجمالي الاستثمارات العالمية.
ولأجل الخروج من هذا الواقع السلبي قامت الدول العربية بعدد من المبادرات لتحرير التجارة البينية من أهمها الاتفاقات الثنائية والجماعية، إذ وقعت أول اتفاقية لتسهيل التبادل التجاري وتنظيم تجارة الترانزيت ضمن إطار الجامعة العربية العام 1953 تلاها قرار السوق العربية المشتركة الصادر عن مجلس الوحدة الاقتصادية العربية العام 1964.
وكانت المبادرة التالية هي توقيع اتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية العام 1981 التي تعتبر ترجمة لأسس استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك المقرة في قمة عمان العام 1980.
ولكن ما يؤسف له أن هذه الاتفاقيات لم يكتب لها النجاح على رغم مرور عقود على إبرامها لأسباب عدة ومعوقات عرقلت إنشاء تكتل اقتصادي عربي له القدرة على تحقيق التكامل الاقتصادي. وفي مقدمة تلك المعوقات غياب الإرادة السياسية التي تكفل التغلب على المشكلات الاقتصادية التي تواجه إقامة السوق العربية المشتركة ناهيك عن تأثر التعاون الاقتصادي بالخلافات والأجواء السياسية بين الدول العربية.
وبخلاف ما ذهبت إليه توقعات العدد من الاقتصاديين المتفائلة، لم تنجح اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى الجهود في أن تعزز من حجم التبادل التجاري العربي البيني أو أن تزيد من حجمه بشكل يتناسب وطموحات الحكومات العربية المعلنة، ومازالت الأرقام تشير إلى أن حجم التبادل التجاري دون الطموح.
ومازالت العلاقات التجارية العربية مع الدول غير العربية هي الأقوى، والشركاء التجاريون للدول العربية ليسوا من الدول العربية، وعلى رغم التنبؤات بمنافع التبادل التجاري العربي وتوضع الاتفاقيات الثنائية الموقعة بين الدول العربية لإقامة شراكات ومناطق تجارة حرة ثنائية بما تضمنته من إلغاء للرسوم الجمركية ومنح تسهيلات ومعاملات تفصيلية لبعض المواد والمنتجات إلا أن هذا الأمر لم يؤد إلى قطف ثماره بزيادة حجم التبادل التجاري العربي.
ولعل من أهم الأسباب التي يعتقد الباحث الاقتصادي إلياس نجمة التي أدت إلى الحالة الراهنة التي تعيشها التجارة البينية العربية هي أن سقوف تطبيق التجارة العربية البينية تنحصر في السلع والخدمات التي يمكن تبادلها بين الدول العربية كون الإنتاج في أكثر الدول العربية مماثلا ولاسيما أن الصناعة العربية لم تصل إلى مستوى الصناعات التكنولوجية المتطورة ومازلنا نعتمد على الصناعات التقليدية الخفيفة، وبالمقابل نستورد الكثير من الصناعات الكيماوية والدوائية والإلكترونية، وفي هذه الحال من الصعب أن نجد دولة عربية تغطي حاجة أشقائها من الصناعات التكنولوجية المتقدمة، ولهذا يغلب على تبادلنا التجاري بند الاستيراد.
وبالنسبة الى أرقام حجم التجارة العربية البينية يرى نجمة أنها أرقام غير دقيقة كونها لا تحتسب تجارة الحدود وتبقى مجرد أرقام خاصة وأن لغة الاقتصاد تقول الرقم للتمويه وليس لكشف الحقيقة.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1912 - الجمعة 30 نوفمبر 2007م الموافق 20 ذي القعدة 1428هـ