سرني أن يكون الزميل الفاضل نادر كاظم قد تلقى بشارة الإفراج عن كتابه « استعمالات الذاكرة: في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ» في الوقت الذي شرفنا بزيارته برفقة الزميل الفاضل علي القميش إلى مجلسنا يوم الأحد الماضي، فكانت فرصة تاريخية وتمهيدية لا تعوض لتهنئته بخبر الإفراج عن كتابه وكتب زملائه، وأذكر أنني مازحته حينها قائلا «يبدو أن خبر الإفراج قد جاءك بسبب بركة مجلسنا العامر»!
وربما وددت مع ذلك أن أزيد على التهنئة والمزحة وأبين له بأن عليه أن لا ينسى بأنه ممتن كثيرا للجهة التي أصدرت إذن القبض والاعتقال و»التجريم» بحق الكتاب، ليس لكون «الإعلام» قد تراجعت عن قرارها أخيرا وأفرج السجان عن السجين، وإنما لأن الإعلام قد منحت كاظم وزملائه الممنوعون سابقا هدايا كبيرة جدا لا تقدر بثمن، وما زالت تمنح المزيد من الهدايا والأوسمة لمن لا يزالوا تحت طائلة المنع!
من يشاهد كيف تحول مسار تلك العاصفة الجدلية العارمة في التلقي لأعمال وأشغال القراءة المعرفية والغربلة النقدية للذاكرة الجماعية البحرينية التي وضعت كاظم ومقالاته المنشورة في «الوسط» سابقا في خانة «المنبوذون» لدى أقصى الطرفين، وكيف أصبحت بعدها تلك العاصفة الجدلية و»الخضة» الفكرية البناءة والموجعة التي توسطها كاظم بفضل قرارات «الإعلام» التعسفية إلى عناق وتلاحم واحتضان وتضامن عام يحظى به كاظم من قبل القراء والصحافة ومؤسسات المجتمع المدني، وانمحت جراء ذلك جميع الخطوط الفارقة بين الأصدقاء والخصوم والأعداء، وبين المتفقين والمختلفين والكائدين والمتوعدين ليصبحوا جميعا في بوتقة ملحمية واحدة في معركة الحرية والتقدم ضد الإقصاء والرجعية من دون تفاصيل، وامتدت هذه البوتقة التضامنية المنصهرة لتشمل العالم أجمع، وحقق الكتاب شهرة واهتماما واسعا لكونه أصبح سجينا عصريا أنيقا وراقيا في أقبية متهالكة عفا عنها وعليها الزمن!
ألا تستحق «الإعلام» بذلك كل الامتنان والتقدير من كاظم وزملائه، خصوصا وأن قراراتها الرجعية تلك التي لم يكن لها من داع ومقام أساسا في «الزمن الإصلاحي» قد فاقت في عطائها أضعاف الإنصاف لضحاياها من دون أن تدري؟!
على رغم أن الوزير جهاد بوكمال ذو الوجه البشوش الصبوح، والخلق الرفيع والمعدن الأصيل، والعقلية العملية الواقعية والرؤية العصرية قد عزز من صدقيته لدى الشعب بجميع أطيافه في ما يتعلق بوعوده بشأن متابعة قضية الكتب الممنوعة ومنها كتاب كاظم، وساهم إيجابيا بمبادرة طيبة ما كان لها أن تأتي من غيره في الإفراج عن هذه الكتب وربما تحقيق سداد نسبي للفجوة المتنامية بين الدولة والمجتمع، ولكن تبقى مع ذلك المرحلة المقبلة هي الأهم لكونها تقتضي بأن تتحول فيه تلك المبادرات الطيبة إلى أعراف مؤسسية راسخة وقائمة تحول دون أي منع وقمع وإقصاء للكتب والمطبوعات التي تقدم طرحا فكريا جدليا بناء ومختلفا مع الروايات الرسمية، وأن يكون تحطيم السقف الخشبي المتهالك منذ زمن «أمن الدولة» في «الإعلام» ذو صدى تقدمي أكبر بكثير من حجم ذلك الحطام الرجعي!
وفي السياق الإصلاحي ذاته ينبغي أن تشهد هذه المرحلة تغييرا واستبدالا في بعض الوجوه والعقليات التي لم يدخلها «أكسجين» العصر الجديد حتى الآن، فلا مانع أن تحال إلى تقاعد إن طالت سنوات خدماتها الديناصورية النفعية، ولا مانع أيضا من أن توضع وتستبدل في أماكن بعيدة كل البعد عن «الثقافة» و»الإبداع» عسى أن تتقي شرورهم، خذ مثلا «قسم الأرشيف» أو «صيانة ما تحت السلالم» حسب العرف البيروقراطي السائد في مؤسساتنا على سبيل المزاح الأسود!
الأمر يستلزم أيضا جدية ووقفة شهامة وطنية مماثلة تجاه بعض المنتديات والمواقع الإلكترونية التي تمادت كثيرا في نشر الطائفية والبلبلة وتسويق الفتن وقذف الآخر المختلف طائفيا وإثنيا بأقذع النعوت من دون رقابة أو إشراف مسبق على رغم كونها مسجلة لدى وزارة الإعلام حسبما يدعي المتفاخرون بانتمائهم إليها، وهم يشيرون إلى أن أي انتقاد وهجوم يوجه لمواقعهم إنما هو يعني قذفا بالحجارة للشجرة المثمرة، في حين أنهم نسوا بأن الزناة يقذفون أيضا ليتطهروا، وكذلك يقذف الأطفال الفلسطينيون الحجارة على الدبابات والمصفحات الإسرائيلية!
لو تجاهلت «الإعلام» تلك الجرائم الصريحة والجريئة في مخالفتها للنص الدستوري الذي لطالما تذرعت به حين قرارات المنع السابقة، فإن ذلك يعني تسترا من «الإعلام» على هذه الجرائم من دون وازع قانوني وإحساس بالمصلحة الوطنية العامة!
تخيل يا عزيزي القارئ بأن «الإعلام» لم تحرك ساكنا أبدا منذ ما كتبناه في مقالنا «خنادق الإعلام ومروج الطائفية في بلادنا!» وحتى الآن، وهذا قد يفسر بأن بياناتها الذرائعية تلك بشأن الاستقرار الوطني قد كتبت بحبر يفوق المحتوى قيمة!
كما تتطلب المرحلة حسما مصيريا للأوضاع مع أزمة «قطاع الثقافة والتراث الوطني»، وهي أزمة طالت وتردت كثيرا على مدى وزارات متعددة، وهو ما تسبب بالإضرار بالكثير من الكوادر والنخب البحرينية المميزة التي تم تهميشها وإقصائها وتفريغها إهمالا لا تشجيعا على مزيد من التفاني الإبداعي، بل هذا التفريغ الذي من الممكن أن يصنف فسادا وهدرا للطاقات والأوقات أتى كأحد الحلول التخديرية المدمرة للتخفيف من ذنوب مضاعفات عقدة الأجنبي المقدسة التي تم اتباع أعراضها اللاواعية كاستراتيجية غير معلنة!
وتمخض عن كل ذلك ارتفاع مبهم في الكثير من أوجه الهدر المالي الضارب حد الجنون والاستخفاف في المال العام وهو المبدد «نتف» باذخة ونزوات إبداعية لا طائل منها، ولم تأت كلها بإنتاجية حقيقية تستحق التضحية الهادرة!
لن ينتهي الوضع في مثل هذه الأزمة إلا بوجود حسم بين خيارين هما إما أن يكون هناك «قطاع» أو إقطاع للثقافة والتراث الوطني، فلا ثالث بينهما أو بعدهما!
أو أن يكون لـ «قطاع الثقافة والتراث الوطني» صفة استقلالية خاصة تنفصل بحسب التقليعة المؤسسية السائدة بحيث لا تتوقف المساعي عن إيجاد نموذج فاعل لشراكة متبادلة تهدف لتحقيق الصالح العام، وهو على عكس الوضع الحالي!
وهنالك مسئولية كبرى للوزير بوكمال في هذه المرحلة لوضع حد لكافة أشكال تدهور «شاشة العائلة العربية» وانتشالها من الحضيض الأدائي والنوعي على الصعيد الإخباري والبرامجي وغيرها من أصعدة، بالإضافة إلى إيجاد وتفعيل المساعي الصادقة للنهوض بالطاقات والقدرات التنافسية للفضائية البحرينية لتنل بذلك أدنى استحقاق لمواكبة عصرية لائقة لآخر التطورات الدولية في مجال الإعلام والاتصال.
لا يسعني في النهاية إلا أن أتصدق بفيض أسفي وعطفي وشفقتي على بعض الإخوة من كتاب المنصات الفارغة، ورسل البروتوكولات الدبقة، وفدائيي «العلاقات العامة»، و مقدمي باقات الورود المزيفة (الاصطناعية) في الفعاليات «الماصخة» ممن قد يكون لقرار إصلاحي كهذا وإن ولد متأخرا من رحم الحكومة وقع أطنان من تبن طمست أقوال وأحبار هؤلاء الإخوة الكتبة!
أليسوا هم الذين أرادوا أن يزايدوا على الحكومة في «حكوميتها»، وعلى عقليات «أمن الدولة» في بطشها وقمعيتها وما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؟!
لقد انطبق عليهم ذلك المثل الذي يتحدث عن نملة أريد لها الزوال، فأصبحت لها أجنحة ونالت بذلك زوالها الحتمي!
مع خالص الاعتذار لقبائل النمل ولمثابرتها الملحمية والوطنية الدؤوبة على مثل هذا التشبيه والتمثيل الرمزي!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1912 - الجمعة 30 نوفمبر 2007م الموافق 20 ذي القعدة 1428هـ