العدد 1908 - الإثنين 26 نوفمبر 2007م الموافق 16 ذي القعدة 1428هـ

وهذا نموذج جديد للفشل الديمقراطي!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لماذا يفشل العرب والمسلمون في اتباع النهج الديمقراطي السليم، في حين ينجح آخرون كانوا وراءنا بأزمان وأشواط؟!

لست وحدي الذي يطرح هذا السؤال المحير، ولكني أعتقد أن كثيرين يطرحونه وفي الحلوق غصة لا تنقشع أو تنجلي... كيف إذا ولماذا يغيب اليقين الديمقراطي في بلادنا، لماذا وحدنا نفشل في صنع قفزة ديمقراطية حقيقية، بينما نرى شعوبا ودولا أخرى، في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، قد قطعت خلال العقدين الأخيرين أشواطا واسعة وبخطوات جريئة نحو الرقي الديمقراطي، القائم على إطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان وممارسة حرية الصحافة والرأي والتعبير كما يجب؟

وعلى رغم تعثر التجربة الديمقراطية في مصر، متأرجحة بين خطوة للأمام وخطوتين للخلف، وهو أمر يستدعي منا التعمق في مقال قادم، فإن الحوادث الساخنة هذه الأيام، تضع أمامنا نموذجين للفشل الديمقراطي في عالمنا العربي والإسلامي الواسع، نموذج باكستان في قلب الشرق الإسلامي، ونموذج لبنان في قلب العالم العربي، يضعاننا في مواجهة الفشل الديمقراطي المؤسف!

ونبدأ بالنموذج الباكستاني، الدولة الإسلامية الوحيدة المالكة للترسانة النووية حتى الآن وعلناَ، فمنذ أن استقلت باكستان عن الهند في أربعينات القرن الماضي، وهي تغوص في مستنقع الانقلابات العسكرية والاضطرابات الأمنية التي حرمتها من الازدهار الديمقراطي، الذي حلم به آباء الاستقلال الأول وفي طليعتهم محمد علي جناح، الذين أصروا على الانفصال عن الهند بعد تصفية الاستعمار البريطاني الطويل.

لقد قام حلم الاستقلال على أساس بناء «دولة إسلامية» مستقلة، تتبع النهج الديمقراطي الغربي الكلاسيكي نفسه، من حيث الحريات والتعددية وتداول السلطة بين الأحزاب، لكن الحلم سرعان ما اصطدم بعقبات شديدة التعقيد سواء في بنية الدولة الوليدة، وتعدد قومياتها وشعوبها التي يجمعها الدين، أو من حيث دور المؤسسة العسكرية في إدارة الدولة.

وبينما مضت الهند على رغم كل تناقضاتها وتعدديتها الإثنية والقومية واللغوية والثقافية والدينية (وفي الهند مسلمون أكثر عددا من مجموع مسلمي باكستان)، فبنت أهم وأكبر ديمقراطية في العالم القديم، واستقرت على نظام برلماني وفق قواعد «وست ملستر» البريطانية الكلاسيكية، وأصبحت قوة نووية يحسب حسابها، مثلما ازدهرت اقتصاديا على رغم كل ما يقال عن مساحات الفقر والفقراء.

ورأينا كيف تعثرت باكستان سياسيا واقتصاديا وديمقراطيا، إلى الحد الذي صارت فيه عنوانا على الحكم العسكري وحالات الطوارئ والانقلابات التي تخلع انقلابين سابقين، اللهم في حالات قليلة الشأن والمدة! بعد الاستقلال خاضت باكستان حربا أهلية طاحنة، انتهت بانفصال بنغلاديش دولة مستقلة، وحملت الاثنتان كل أوبئة التخلف والفقر والحكم الانقلابي، تحت غطاء وهمي يدعي الديمقراطية، فإن تركنا بنغلاديش جانبا، فإن باكستان انكفأت على مشكلاتها المعقدة، الممتدة من الفقر والقهر الاجتماعي، حتى الطوارئ والقهر السياسي، وإن ظل الإنجاز النووي هو العلامة المميزة الأهم في مسيرتها الطويلة نسبيا، ولم يكن ذلك الإنجاز إلا لمجابهة الهند النووية عبر الحدود المشتعلة دوما.

وها هي باكستان تعوم الآن فوق موجات من الاضطرابات، السياسية والاقتصادية الاجتماعية والأمنية العسكرية، فما تكاد تنجو من انقلاب عسكري إلا لتقع في حبائل انقلاب جديد، وها هو الجنرال مشرف يقدم نموذجا جديدا من قادة الانقلابات العسكرية، الذين يلجأون إلى سلاح الطوارئ وترسانة الجيش لإحكام القبضة الحديد على السلطة، بعد تعديل الدستور وتطويع القانون والقضاء ليضفي شرعية مزيفة، وبعد خلع اللباس العسكري لصالح اللباس المدني، على رغم أن الطاغية العسكري هو.

ومن الظلم أن تسلب الشعب الباكستاني حقه في المقاومة، فثمة هبة شعبية ضد النظام العسكري الذي قهر التجربة الديمقراطية، وثمة معارضة بعضها وطني ديمقراطي حقا، وبعضها يمثل انقلابين وعسكريين سابقين فقدوا العرش بانقلاب مضاد، وبعضها الثالث ربط مصيره ومسيره بالغطاء الأميركي الصرف.

وفي ظل هذه الحالة المترددة بين الفشل الديمقراطي، والفشل الإصلاحي الاجتماعي يكتوي الشعب الباكستاني بالحسرة، وخصوصا إذا ما نظر إلى الاستقرار الهندي على الجانب الآخر... ونخطئ إن وافقنا على مقولة أن الفشل الباكستاني يرجع فقط إلى حدة المواجهة مع غريمتها الهند ولكن المؤكد أن الفشل يعود إلى عوامل داخلية باكستانية في الأساس، أما العوامل الخارجية فهي تأتي مكملة، مستغلة الفشل الداخلي أصلا.

ومن قلب العالم الإسلامي، إلى قلب العالم العربي، يأتي لبنان نموذجا واضحا للفشل الديمقراطي أيضا، وها هو الشعب اللبناني المتميز يجني ثمار فشله في إنضاج تجربة ديمقراطية حقيقية وراسخة الأسس، على مدى نحو ستين عاما من الاستقلال.

وبالمقاييس العلمية الموضوعية، للاستقلال الوطني من ناحية وللحكم الديمقراطي من ناحية أخرى، نستطيع المجازفة بالقول إن لبنان الذي نحبه جميعا، قد حُرم من الاثنين معا، على رغم كل الأصوات المرتفعة والشعارات الرنانة التي تتغنى بالاستقلال والديمقراطية... لقد عاث الجميع فيها فسادا، وامتدت كل الأيدي الشقيقة والصديقة، العدوة والكارهة، لتلعب في الساحة اللبنانية، التي رضيت منذ بدايات الاستقلال أن تكون مفتوحة للجميع، رئة لتنفس الجميع، أرضا رحبة وخصبة لكل من يريد التدخل والتآمر والمناورة والتربح والتنزه والاستمتاع، بكل ما هو طيب ولذيذ وجميل في لبنان... من البنك إلى الكازينو، ومن الثقافة إلى الصحافة، ومن الجبل إلى الساحل.

ازدهر لبنان سنوات ماليا وسياحيا واقتصاديا، وأثرى كثيرون، لكن الأرض اللبنانية محدودة المساحة، شهدت أكثر الحروب الشرسة، من الغزو والاحتلال الإسرائيلي المتكرر، إلى الحرب الأهلية الأشرس 1975 - 1989، مثلما شهدت تدخلات عسكرية متنوعة، أشهرها طبعا التدخل السوري تحت راية عربية وبموافقة غربية شهيرة!

لقد ظللنا سنوات وعقودا نردد أن لبنان هو النموذج الديمقراطي العربي الوحيد، الناجح والمؤكد، نفخر بازدهاره ونعتز بدوره الثقافي والفني والسياسي، على رغم الإمكانات المحدودة، نموذج كان يناطح أكبر الدول وأغزر التجارب التحررية، بفضل مساحة الحرية داخله... لكن أية حرية هي، وماذا أنتجت حتى الآن من نجاح ديمقراطي حقيقي ومستمر! أعجبني في هذا الصدد، قول منسوب للعلامة السيدمحمدحسين فضل الله، أهم مرجع شيعي لبناني، وخلاصته أن لبنان مثل قطعة من الزبد، تتناوشها سكاكين الفرقاء اللبنانيين المختلفين الآن... طبعا لإعادة تفتيتها!

وليس الفشل الديمقراطي في انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، كما هو حادث حتى اليوم، إلا تطبيقا لمقولة السيدفضل الله، لأن الديمقراطية ليست أصيلة وقواعدها ليست راسخة وفضاؤها ليس خاليا من أصابع المتدخلين، وساحتها ليست إلا مسرحا لتقاطعات وخلافات إقليمية وأجنبية، فوق الداخلية, كل يريد قطعة ولو صغيرة من الزبد الهش!

وتأمل ما يجري في الساحة اللبنانية، المضطربة، وخصوصا منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في فبراير/ شباط العام 2005، لن تجد إلا قواعد الفوضى والفراغ تحكم بدلا من قواعد الوفاق والديمقراطية، ولن تجد إلا تدخلات أجنبية وإقليمية باسم الوساطة، تريد «تمزيق الممزق»، على حد تعبير صديقنا الكاتب اللبناني الكبير محمد السماك. لقد خرجت القوات السورية (30 ألفا) من لبنان إثر تداعيات اغتيال الحريري، لكن دخلت قوات أخرى دولية وإقليمية، وانقسمت الطبقة السياسية ما بين الموالاة والمعارضة، الأولى ارتبطت بمحور المعتدلين العرب، وبأميركا وفرنسا، والثانية ارتبطت بسورية وإيران والثوريين العرب أو من تبقى منهم... الكل يتصارع على قطعة من الزبد.

وها هي التجربة الديمقراطية اللبنانية تتعثر من فشل إلى فشل، إن كان للتدخل الأجنبي دوره، فإن التمزق الداخلي يبقى هو الأصل والأساس، فقد عجز اللبنانيون عن فهم وتطبيق القواعد الديمقراطية السلمية، أساسا للتعايش بين موزاييك طائفي يضم 18 طائفة دينية ومذهبية مختلفة، وصار شعار الوفاق والتوفيق بين مصالح هذه الطوائف، بديلا للفلسفة والقواعد الديمقراطية، ولم يعد التفاهم أو التلاقي بين اللبنانيين يتم إلا وفق مصالح الطائفة ومبدأ المحاصصة، أي توزيع كل شيء من الثروة الوطنية إلى المناصب العليا والدنيا، وفق وزن وقوة كل طائفة، بنفوذها السياسي الداخلي وارتباطاتها الأجنبية، وبقوتها العسكرية الميليشياوية المسلحة على الأرض... وهنا ضاعت الوحدة الوطنية، كما ضاعت الديمقراطية.

هكذا أصبحنا أمام فشل جديد ومحزن، لنموذج كنا نراه ديمقراطيا، فإذا به نموذج للديمقراطية الطائفية، إن كان التعبير يصلح!

خير الكلام:

يقول الشاعر اللبناني الكبير خليل مطران:

أطفئوا الأعين هل إطفاؤها

يمنع الأنفاس أن تصعد زفرا!

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1908 - الإثنين 26 نوفمبر 2007م الموافق 16 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً