العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ

النهضة العربية الثالثة

الحسن بن طلال comments [at] alwasatnews.com

لا يختلف اثنان على أن حال الأمة لا تسر صديقا، وأننا مازلنا نراوح أنفسنا. فكل أحاديثنا وأطروحاتنا بشأن المشروع النهضوي العربي المنشود مازالت كلاما فوق كلام. ما العنصر المفقود، إذا؟

دعونا نستذكر أن النهضة الأولى أحيت الأمل في النفوس. فهذا اليازجي والريحاني والبستاني ومحمد عبده والكواكبي، إلى آخر القائمة المشرقة من الرواد، يرسون البدايات ويبدعون الأسس. وهذه أعمالهم تلخص تضاريس تلك «النهضة الأولى» العظيمة التي مازالت تتغلغل في الوجدان. فحبذا لو عدنا إلى النصوص الحية التي تركها أولئك الكبار كي نستلهمها في حاضرنا ومستقبلنا.

دعونا نستكنه الرؤى النافذة التي مثّلها الشعار المتألق «الدين لله والوطن للجميع»؛ وكأن هؤلاء الرواد قد وضعوا إصبعهم على الجرح؛ وكأنهم يحذروننا من أي شرذمة إثنية أو طائفية أو دينية أو عرقية أو سواها. لقد تكالبت المحن والرزايا من الداخل والخارج؛ فأجهضت نهضتنا الأولى، مع أنها بقيت نبراسا تنويريّا يضيء لنا الدروب حين تدلهمّ الخطوب.

ثمّ هبت رياح النهضة الثانية؛ الثورة العربيّة الكبرى التي حرّكت الأمة وبعثت الأمل من جديد. والنهضة إن هي إلا ثورة في النهاية، ثورة في الذهنيات من قبل ومن بعد. فقد حملت هذه النهضة الثانية شعلة سابقتها من حيث سعيها لتأصيل الحداثة وتحديث الأصالة.

ومرة أخرى - للأسف - تختلط الأوراق وتؤول النهضة الثانية إلى ما آلت إليه نهضتنا الأولى، خواء وعبثية وفوضى في القيم والمعايير.

ألم يحن الوقت لنهضة ثالثة أكثر رسوخا؟ نهضة تجني العبر من أخطاء الماضي وخطاياه؟ أرى أن نهضة كهذه لابد أن تنطلق من ترسيخ مفهوم المواطنة وأن تنتهي بميثاق شرف؛ ميثاق مواطنة عربيّ يوضح الواجبات والحقوق والمسئوليات للأفراد والجماعات. هذا ما نأمل أن ننجزه، ولو بخطوطه العامة، في الندوة الفكرية السنوية لمنتدى الفكر العربي المنْوي عقدها في أبريل/ نيسان 2008 باستضافة المملكة المغربية الغالية بعنوان «المواطنة في الوطن العربي». وكان لي شرف تقديم هذا المفهوم، أو بعض إيحاءاته، في الندوة الفكرية السنوية السابقة للمنتدى التي استضافتها دولة قطر العزيزة في شهر يناير/ كانون الثاني 2007.

ما المواطنة، إذا؟ بل ما المواطنيّة، إذا أردنا أن نرفع مستوى المفهوم باستعمال صيغة المصدر الصناعي؟

هنالك أبعاد وأبعاد للمواطنة الكاملة؛ المواطنة بمعناها الشامل. ويمكن تلخيصها في نظرة جامعة من المؤمل أن يتمّ تناولها بالتفصيل في بنود الميثاق الذي نحن بصدد مناقشته وبحثه في المملكة المغربية، فالبعد الإنساني: الرحمة، التكافل، التعاون، المساواة بين الجنسين، رفض أشكال التمييز كافة، الإعلاء من شأن الحرية؛ ضمان حق اختيار المعتقد.

البعد الديمقراطي: حرية اختيار السلطات السياسية، التداول السلمي على السلطة، تأكيد مفهوم التشاركية التي تعني مؤسسات الدولة بقطاعيها العام والخاص، بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني، تمكين النهج الديمقراطي والحس العام وتعزيز المناخ الديمقراطي بشتى السبل كيلا تبقى الديمقراطية مجرد شعار أو كلمة صماء، احترام مبدأ التعددية وممارستها بحيث تقوم على وعي عميق بمفهومَي التنوع والاختلاف في إطار حضاري يستوعب التمايز الثقافي والديني والعرقي والقبلي والطائفي أي التنوع في إطار الوحدة.

البعد البيئي: المحافظة على البيئة وحمايتها، الانتماء للأرض، والمحافظة على القدرة الاحتمالية للأرض.

البعد القانوني والدستوري: احترام القوانين والدساتير والمعايير التي تكفل للأفراد والجماعات حرية التعبير عن آرائهم.

بكلمات معدودات، أن يكون المواطن مالك «أسهم» في بلده ليس فقط معنويّا، بالمعنى التقليدي للانتماء، وإنما أيضا ماديّا، بمعنى أن تكون له حصة عادلة في بلده.

بإمكاننا الاستفادة من تجربة المسلمين الأوروبيين في صياغتهم لأول ميثاق للمسلمين في أوروبا، الذي حدد حقوق المواطنة لثلاثين مليون مسلم. لقد خاطب هؤلاء من خلال هذا الميثاق الاتحاد الأوروبي وجميع المسلمين في أوروبا والعالم الإسلامي، على أساس التزامهم بحكم القانون ومبادئ التسامح وقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتمسّكهم بقيم الحياة والإيمان والحريّة والملكيّة والكرامة.

فأنا أدعو - مرة أخرى - إلى صوْغ ميثاق مواطنة أو مواطنيّة عربيّ، على غرار ميثاق المسلمين الأوروبيّين. إننا نطمح إلى تأسيس المواطنة الكاملة التي يكفل ميثاقها الحقوق المتساوية للأفراد والجماعات في المشاركة في السلطة واقتسام الثروات والحضور المتكافئ في الفضاء العام. وينطلق مفهوم المواطنة هذا من أمة عربية إسلامية تتبنى سياسة الانضواء تحت مظلة النواميس الإنسانية من خلال برامج وخطط ذات مضامين. فالأمة مفهوم فوق قطري يبدأ من قاعدة الهرم حتى قمّته.

وحتى ذلك الحين، لنفكر على الأقل في مفهوم مواطنة انتقاليّة على غرار مفهومَي الديمقراطية الانتقالية والعدالة الانتقالية، ليس لتأجيل الموضوع لا سمح الله؛ وإنما كي نكسب فسحة في الأمل والوقت والمرونة فنعمّم هذه الأفكار وفلسفتها ومنهجيتها بين المواطنين والجماهير.

لم أكمل بعد حديثي عن المواطنة وميثاق المواطنة المنشود. فالحديث موصول بإذنه تعالى

إقرأ أيضا لـ "الحسن بن طلال"

العدد 1903 - الأربعاء 21 نوفمبر 2007م الموافق 11 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً