ما كان حتى الآن أمرا واقعا، فرضته قوة الأشياء (من انهيار الاتحاد السوفياتي إلى استفحال المخاطر الإرهابية)، بات، منذ يوم الجمعة الماضي، «عقيدة» استراتيجية، تدين بها الولايات المتحدة رسميا، في وثيقة أعلنها الرئيس جورج بوش، أساسا لتحرك بلاده على الصعيد الدولي في مستقبل الأيام.
لم يرد في تلك الوثيقة من جديد لم يسبق للرئيس الأميركي، ولأعوانه من صقور إدارته، أن أفصحوا عنه في أكثر من مناسبة، في خطب تفوهوا بها وفي تصريحات أدلوا بها وفي سلوك سبق لهم أن توخوه، حيال أفغانستان أو أزمة الشرق الأوسط أو العراق، أو حيال ما أسموه بلدان «محور الشر» على نحو أعم، كل ما في الأمر أن ما كان متفرقا، أو يبدو من باب التبرير الآني لهذه الخطوة الموضعية أو تلك ولهذا التحرك العيني أو ذاك، «سُبِك» الآن في عقيدة استراتيجية، تتمحور حول جوهر أو مبدأ أساسي، هو المتمثل في «الضربة الاستباقية»، أي حق الولايات المتحدة، بمفردها وأصالة عن نفسها حصرا، في إعلان الحرب على كل من تشتبه في أنه يشكل تهديدا لأمنها أو لمصالحها أو لحلفائها.
هي إذا الأحادية، وقد أصبحت حجر الأساس في سياسة واشنطن حيال العالم الخارجي. صحيح أن الأحادية تلك ليست بالأمر المستجد، وأن الرئيس بوش الابن لم يجترحها من عدم، وإن استفحلت في عهده وبلغت مدى غير مسبوق، وأن سلوك الإدارات السابقة كثيرا ما اتسم بها إلى هذه الدرجة أو تلك، وأن وقائع من قبيل الاستفراد بـ «حل» أزمة الشرق الأوسط وتعطيل أي دور للأمم المتحدة في شأنها، أو من قبيل القوانين، الأميركية منبعا والنافذة كونيا أو الزاعمة ذلك، والرامية إلى مقاطعة بلدان مثل ليبيا وإيران وكوبا وسواها، سابقة على الإدارة الحالية ولم تكن من ابتداعها. غير أن الأحادية تلك كانت على الدوام تبدو جموحا قياسا إلى قاعدة، هي قاعدة الالتزام بالشرعية الدولية، أو تشوها ناتجا عن القوة المفرطة، وما قد تمليه من صلف ومن عنجهية، أو عن مزاج أو عن ملمح ثقافي تنفرد به الولايات المتحدة، كبلد يقع في قلب العالم اقتصاديا وسياسيا، ويقع خارجه وينكفئ عنه ذهنية ووجدانيا، أو عن كل تلك العوامل مجتمعة.
يبقى أن مثل تلك النزعات أو الطفرات الأحادية كانت عبارة عن خروق للنظام الدولي، وكان العالم يتعامل معها بصفتها تلك، أما الجديد الذي جاءت به إدارة الرئيس بوش الحالية، بقطع النظر عن الجدل حول ما إذا كان عدوان الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول ذريعة لذلك أم سببا، فهو ذلك المتمثل في تحويل تلك الخروق، إلى نظام دولي بديل، يلغي ذلك الذي كان قائما، وإن كان بنجاح نسبي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويجبّه ويحل محله. ذلك النظام السابق، أو الذي يعيش حاليا آخر أيامه، كان يستند، فيما يتعلق بالحفاظ على السلام العالمي، أولا إلى مبدأ المسئولية الجماعية، تلك التي يمثل مجلس الأمن مناطها، وثانيا إلى اعتبار أن الحرب لا تكتسب مشروعيتها الدولية إلا من طبيعتها الدفاعية، إلا بوصفها وسيلة أخيرة وقصوى لصد عدوان يستهدف السلام العالمي ويعرضه للخطر، أو لعدوان تراه الأسرة الدولية أو أطرافها النافذة كذلك. كانت الحال كذلك على الصعيد النظري طبعا، وإن لم تسر الأمور على هذا النحو تماما ودوما على الصعيد العملي، إذ خيضت باسم الإرادة الدولية حروب لم يكن الحفاظ على السلام العالمي أو استعادته هاجسها في كل الحالات، كما أن النفوذ داخل مجلس الأمن كان متفاوتا، لصالح البعض من دون البعض، ونصيب أصحاب المقاعد الدائمة منه أكبر من نصيب سواهم، في حين أن القوى العظمى داخله لم تكن على الدرجة نفسها من العظمة. لكن الآلية تلك، على رغم من إخفاقاتها الكثيرة، كانت على قدر من الفاعلية، أقلة لأن وجودها كان أفضل من انعدامها، ولأنها شكلت، في نهاية المطاف، مجالا للتشاور وللتداول بين الأمم، ومؤسسة ساعية إلى تنظيم الحياة الدولية، وإن لم تفلح في ذلك دوما.
الانقلاب الذي أحدثته الولايات المتحدة، من خلال عقيدة الرئيس بوش الاستراتيجية الجديدة أنها أحلت مبدأ الحرب الهجومية، محل مبدأ الحرب الدفاعية، كسند نظري تتأسس عليه الحياة الدولية، وأنها أولت صلاحية القرار بشأنها وخوضها إلى نفسها، خارقة بذلك مبدأ المسئولية الجماعية، أو شبه الجماعية، الذي قامت عليه تلك الحياة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
فـ «الحرب الاستباقية»، هي فعل هجومي، والقرار بشأنها لا يمكنه، بالتعريف، إلا أن يكون من طبيعة انفرادية (أو ربما نهض به تحالف بين دول على قاعدة تقاطع مصالحها الأنانية الوطنية)، أي أنه لا يمكنه بحال من الأحوال أن يجري باسم الإرادة الدولية، لأن الفعل الهجومي وإن كان من الممكن تحديده سياديا، أو من قبل دولة بعينها أو مجموعة من الدول المتحالفة، إلا أنه يتعذر تحديده قانونيا، أي من قبل فلسفة الشرعية الدولية وآلياتها. فإذا كانت الحرب الدفاعية تأتي لصد خرق ملموس لما استقر عليه الرأي على أنه الأعراف والقوانين الدولية، كما هي الحال مثلا بالنسبة إلى حرب تحرير الكويت، فإن نظيرتها «الاستباقية»، كفعل هجومي لا يستند إلى سابقة ملموسة، إنما وازعها الشبهة والظن، إذ يكفي أن تعتبر دولة من الدول أن أخرى تمثل تهديدا حتى تبادر إلى محاربتها، من دون أن يوجد من رادع في ذلك سوى ما تسمح لها به قوتها. صحيح أن ذلك ليس بالأمر المستجد في تاريخ العالم قديما وحديثا، وأنه كثيرا ما حكم علاقات القوة بين الدول على صعيد ثنائي، وفعل فعله على هامش الشرعية الدولية وخارجها، لكن مع فارق أساسي هو أن الصيغة الأميركية الجديدة للحرب الهجومية، كما عرضها الرئيس بوش أخيرا، إنما تأتي لتُحِل ذلك المبدأ أساسا للنصاب الدولي، وبديلا عن الشرعية الدولية.
ولكن هل تُلام الولايات المتحدة لأنها تصرفت في المحصلة الأخيرة كدولة، فاستخلصت من ميزان القوة الراجح لصالحها بإطلاق، كي تفرض إرادتها على العالم؟ فإذا كان للشرعية الدولية فيما مضى بعض الحظوة، فذلك ليس لولع أمم الأرض بالقانون، بل لأنه كان يقوم حد أدنى من التوازن بين القطبين السابقين، الشيوعي والغربي، يحول دون انفراد أي منهما بمقدرات العالم، ولا أمل بعودة الشرعية الدولية إلا باستعادة توازن دولي من ذلك القبيل أو من قبيل سواه، وهو ما لن يحدث إلا إذا ما طرأت على خريطة النفوذ في العالم تحولات، تفضي إلى تحالفات غير تلك التي عهدناها حتى الآن وأصبحت لاغية عمليا، تضع في مواجهة الولايات المتحدة قطبا جديدا، لا يتمثل بالضرورة في دولة عظمى بعينها، قد لا ترى النور في المستقبل المنظور، ولكن في تكتل قد لا يلتقي أطرافه حول نظرة موحدة إلى نظم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، كما كانت حال الأحلاف سابقا، ولكن حول رغبتها المشتركة في نيل نصيبها من الوجود تحت شمس السياسة الدولية
العدد 19 - الثلثاء 24 سبتمبر 2002م الموافق 17 رجب 1423هـ