حاصرنا المتطرفون من كل جهة، بعد أن توحدت أهدافهم، بل وتوافقت أساليبهم في معاقبة معاديهم... حاصرنا المتطرفون من الشرق كما من الغرب، وهاهم يلاحقون مخالفيهم بإهدار دمهم، أو على الأقل إهدار سمعتهم وتهديدهم بالعقاب الشديد!
ففي حين أهدر تنظيم القاعدة دم الباحث في الشئون المعنية بالتنظيمات الإسلامية الزميل عبدالرحيم علي، لأنه أدان فكريا كل أفكار وأساليب الإرهاب المسيء للإسلام والمسلمين، سارعت المنظمة الصهيونية الأميركية المعروفة «مكافحة التشهير» بإدانتنا وإهدار سمعتنا، بحجة هجومنا المستمر على السياسات الإسرائيلية، وبات علينا الحذر الشديد من الأيادي الصهيونية الطويلة!
هكذا اتفق المتطرفون الإسلاميون والصهيونيون، على فكر واحد ومنهج وأسلوب واحد في مطاردة خصومهم، وفي فرض قيود عديدة عليهم، ابتداء من قيود الخوف على الحياة، وانتهاء بقيود الخوف من مجرد السفر خارج الحدود، حتى لا تطولك الأيدي القذرة بتهمة معادة السامية!
قبل أيام قلائل، تلقيت ثلاثة اتصالات هاتفية من ثلاثة مصريين وعرب، يقيمون في الولايات المتحدة الأميركية، يقولون إن منظمة مكافحة التشهير الصهيونية قد أصدرت ملفا مهما بشأن ما تراه معاداة للسامية من مقالات ورسوم في الصحف المصرية، وبدأته باسم كاتب هذه السطور، فعليك بالحذر أنت والآخرين!
عبر المواقع الالكترونية، حصلت على الملف الذي يضم 26 صفحة، بدأت صفحته الأولى بمقطفات من بعض مقالاتي المنشورة، ومنها ما يعود إلى العام 2005، وهي تتحدث في مجملها لاعن عداء لليهودية واليهود، ولكنها تدين عدوان «إسرائيل» المستمر والمتصاعد، ضد الشعب الفلسطيني واحتلالها للأراضي السورية واللبنانية... وعن انفراد «إسرائيل» بترسانة نووية هائلة لا مثيل لها في المنطقة، من دون أن يجرؤ أحد على مفاتحتها فيها أو الكشف عن غموضها النووي المعروف!
وهذا هو المضمون الذي ترى فيه المنظمة الصهيونية الأميركية، عداء للسامية وتشهيرا باليهود وتعريضا باليهودية، بينما أراه فضحا للصهيونية وتعرية للسياسات العدوانية لدولة «إسرائيل»، تنبيها لضمير العالم الصامت، بأن الخطر الداهم الذي يفجر الشرق الأوسط والعالم، يكمن في فلسفة الحكم في «إسرائيل»، القائمة على عقيدة الحرب والغزو والاحتلال وقهر الأغيار، أي الآخرين، الذين هم العرب، حتى أبادتهم بالقنابل النووية!
وعلى أي حال لم تكن هذه هي المرة الأولى، التي تكرمني المنظمة الصهيونية بوضع اسمي في قوائمها. فقد تعددت الحالات عبر السنوات الماضية، خصوصا حين عالجت الاستغلال الصهيوني الواسع لدراما «الهولوكوست» أو المحارق النازية، وقلت إن الحادث قد وقع، فطال اليهود وغير اليهود مثل الغجر وبعض المسلمين، لكن المبالغة في عدد الضحايا اليهود ليصل إلى ما فوق الملايين الستة، هو التضليل والتزييف بعينه، حيث تضخيم المأساة يؤدي بالضرورة إلى مضاعفة التعويضات وتضخيم «التعاطف الإنساني» الدولي مع اليهود... الضحايا!
وبالإضافة فإن هذه المنظمة الصهيونية الأميركية، وهي إحدى أهم اذرع اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم، قد خصصت أحد أهم أقسامها للمتابعة الدقيقة لكل ما يكتب وينشر ويذاع في الصحف المصرية والعربية والإسلامية، لكي ترصد وتحلل هذا كله، أن تعلق بالهجوم على «إسرائيل»، ونقد سياساتها وقادتها الدينيين والسياسيين، ومضت تراكم، بالتعاون مع مركز «ممري» الصهيوني ملفات فوق ملفات، وأسماء بعد أسماء تضعها في القائمة السوداء.
ولم يكن غريبا إذا أن تشمل القائمة الجديدة إضافة إلى اسمي كثيرين، مثل أحمد عبدالمعطي حجازي وإبراهيم سعده وأحمد النجار وزغلول النجار ومرسي عطا الله، بل والغريب المدهش، اسم المرحوم سمير سرحان الذي توفي منذ سنوات ولم يعد يكتب أو ينشر، ولقد ركزت القائمة طبعا على رسامي الكاريكاتير في الصحف خصوصا شيخهم أحمد طوغان وجمعة وعصام حنفي ومصطفى حسين، وصولا للرسامين الهواة الذي تنشر لهم بعض الصحف تشجيعا لهم!
ولا جديد في الأمر، إلا أن يكون مجرد إعادة إنتاج القديم وتكرار المكرر، للتأثير على الرأي العام الأميركي خصوصا، في هذه الظروف السياسية، والإلحاح المستمر على مقولة إن العرب والمسلمين هم الأشد عنصرية وعداء وكراهية للحضارة اليهودية المسيحية، وهاهم يحرضون ضد اليهود حين يهاجمون «إسرائيل»، أو مجرد ينتقدون سياستها، وهم أن قهروا «إسرائيل» غدا، فإنهم سيقهرون أوروبا وسيغزون أميركا بعد غد!
والحقيقة أن الإلحاح المستمر على تعميق هذه المعاني المضللة المزيفة، في الرأي العام الأميركي، ابتداء من المدارس والكنائس والمعابد، وصولا لقمة السلطة ممثلة في الكونغرس والبيت الأبيض ووسائل الإعلام الجبارة، قد أثمر، مستغلا كل أخطاء وقصور المواجهة العربية والإسلامية، فإذا بمنظمات اللوبي الصهيوني، ومنها «مكافحة التشهير» تركب الموجة بعد الموجة، تعميقا للكراهية وتصعيدا للخلاف، خصوصا في أعقاب الهجمات الدموية الشهيرة العام 2001، ثم من جراء الهجمات الإرهابية في أكثر من مكان بالعالم، التي نفذتها جماعات متطرفة مثل «القاعدة» وفروعها!
ولأن منظمات اللوبي الصهيوني شديدة التنظيم ثرية التمويل قوية الصلات والعلاقات، فقد تمكنت حتى من قلب الحقائق وتزييف المعلومات عن طريق آلية «الإقناع بالإلحاح»، التي أثرت في الرأي العام الأميركي والأوروبي، وإذا بالتأثير ينتقل إلى صناع القرار ومشرعي القوانين ومروجي السياسات، في وقت احتل فيه صقور «المحافظين الجدد» اليمينيون المتطرفون المتحالفون مع «إسرائيل» والصهيونية، الحلقات المؤثرة في البيت الأبيض والوزارات المهمة مثل الخارجية والدفاع والخزينة وغيرها. فضلا عن الصحف ووسائل الإعلام الحديثة.
ومن هنا تأتي خطورة إصدار منظمة مكافحة التشهير الصهيونية للقائمة السوداء، التي تضم كتابا وفنانين عديدين، لأن ذلك يعتبر بلاغا مخابراتيا لكل الأجهزة السياسية والأمنية في أميركا، التي تضع هذه الأسماء الواردة على الغالب في قائمة المتهمين، أو على الأقل المشبوهين... وهذا يكفى عقوبة أو يكفى تهديدا...
حسن... إن كانت قوائم «المشبوهين» قد تكررت على مدى السنوات الماضية، فما الجديد في هدف القائمة الأحدث التي صدرت أخيرا!
نستطيع القول إنها تمثل الهجوم المضاد الذي تشنه المنظمات الصهيونية، على تجدد الحملة المصرية والعربية لمقاومة التطبيع الناشطة هذه الأيام، والتي ترفع أصواتها عاليا تحذيرا للحكومات والنظم والمؤسسات، بل والأفراد، من التطبيع السياسي أو التجاري أو الثقافي والصحافي مع «إسرائيل» طالما أن «إسرائيل» مازالت تحتل الأراضي العربية في فلسطين والجولان السورية وشبعا اللبنانية، وطالما أنها ترفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، وطالما أنها تمارس التخريب المنظم في أكثر من دولة عربية، وطالما أنها تهدد أمننا القومي بل وتردعنا وترعبنا، بترسانتها النووية، من دون امتلاكنا لرادع نووي مكافئ!
الهجوم الدعائي الصهيوني المضاد، وقد عرف قوة إصرارنا جميعا على عدم التطبيع مع «إسرائيل»، أراد يستبق مؤتمر «انابوليس» المزعم عقده قريبا، باسم السلام وبرعاية أميركية، لكي يرهب أصواتنا المعارضة له، ويشجع الوفود العربية المشاركة، أو المدعوة، لكي تمد أياديها لتصافح الأيدي الإسرائيلية، تحت الرعاية الأميركية... فإذا بالصورة التاريخية المطلوبة تنشر وتذاع، لتخدع الأبرياء، بأن السلام قد تحقق والمصالحة تمت والبهجة زادت وفاضت!
أظن أن هذا هو هدف حملة التشهير الصهيونية الأميركية، حملة إسكات الأصوات وإخراس الألسنة وقمع المقاومة والمعارضة، وأظن أيضا أنها حملة فاشلة، قياسا على فشل سابق متراكم، فالمواقف المبدئية تظل ثابتة إلى أن تتغير الأسباب وتتعدل النتائج إلى الأفضل...
والى أن يحدث ذلك، سنظل من مقاومي التطبيع، حتى ولو اتهمونا بمعاداة السامية، وستظل مقاومتنا هذه نابعة من ثلاثة مواقف مركبة، نابعة أولا من موقف فكري شخصي، ونابعة ثانيا من موقف نقابي اتخذته الجمعية العمومية لنقابة الصحافيين المصريين قبل أكثر من عشرين عاما، ونابعة ثالث من موقف قوي أقره اتحاد الصحافيين العرب ويجدده كل عام برفض التطبيع مع «إسرائيل» بأي شكل ولأي مبرر حتى تتغير السياسات ويسقط العدوان، وتستعيد شعوبنا حقوقها المسلوبة...
وأخيرا... أليس غريبا أن يتفق متطرفو «القاعدة» «الإسلاميون» مع متطرفي اللوبي «الصهيوني»، على فكرة واحدة... تنفيذ الأحكام قبل تحقيق الاتهام!
خير الكلام: يقول الشريف الرضي:
وجرى الزمان على عوائد كيده
في قلب آمالي وعكس رجائي
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1895 - الثلثاء 13 نوفمبر 2007م الموافق 03 ذي القعدة 1428هـ