إنّ المتابع لتحركات القادة والمسئولين الأميركان والغربيين يلاحظ أنّ هناك تحركا محموما هذه الأيام تجاه الدول العربية و «إسرائيل» وإيران؛ أيّ الشرق الأوسط، وهذه التحرّكات وإن كانت في ظاهرها غير مرتبطة ببعضها بعضا ولكن في باطنها كلّ لا يتجزأ ومَنْ يستطع أنْ يجمع أجزاء اللعبة المتناثرة يمكنه ومن دون عناء أنْ يصل إلى نتيجة مفادها أنّ حلم الشرق الأوسط الكبير مازال يراود مخيلة الإدارة الأميركية عموما والمحافظين الجدد خصوصا والذي تتحكّم في مقدراته وشعوبه أميركا و «إسرائيل». فبالنسبة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش لعلها آخر أوراق اللعبة قبل رحيله الأبدي من البيت الأبيض. فهناك تحرّك أوروبي روسي لتحييد البرنامج النووي الإيراني وفريق يعمل ليل نهار لفرض رئيس لبناني يعمل من خلال جهاز تحكّم عن بُعد أميركي فرنسي وفريق أميركي أوروبي يلعب في أوراق دارفور ناهيك عن فريق العراق وفريق الصحراء الغربية وغيرها من الفرق التي يتم تجهيز خطط لعبها في البيت الأبيض.
ولعلّنا نستطيع بعد هذا التقويم التحليلي الموجز، ولوج موضوعنا وهو مؤتمر أنابولس الأميركي الإعداد، والإسرائيلي النكهة والنتائج، هذا المؤتمر الذي بدأ الترويج له من قِبل الإدارة الأميركية منذ ما يقارب الأشهر الخمسة قامت إثر ذلك الفرق الأميركية والأوروبية وفريق السلطة الفلسطينية واللجنة الرباعية والدول العربية المعتدلة أو بما يسمى «الستة + واحد» وهي دول الخليج العربية بالإضافة إلى مصر والأردن قامت كلّ تلك الفرق بترطيب وتلطيف الأجواء عبر إطلاق التصريحات النارية عن مرجعية المؤتمر الرصينة والمتمثلة في رؤية الرئيس بوش الحالمة والضبابية في الدولتين وخارطة الطريق التي وضع عليها الإسرائيليون أربعة عشر تحفظا والمبادرة العربية التي لم ولن تعترف بها «إسرائيل» والقرارات الدولية التي لم تطبّق «إسرائيل» أيا منها.
لإبداء النوايا الحسنة أخذ المسئولون العرب المعتدلون في التسابق إلى لقاء المسئولين الإسرائيليين وبشكل علني هذه المرة كما حثت أميركا «إسرائيل» على دعم وتقوية وضع رئيس السلطة الفلسطينية من خلال بعض المكرمات الإسرائيلية، منها إطلاق سراح 250 معتقلا من أصل نحو 11 ألف معتقل ومنح الفلسطينيين السيطرة الأمنية على نابلس في النهار! وإطلاق سراح مبالغَ محدودة من أموال الضرائب الفلسطينية المجمّدة في مصارف «إسرائيل» واجتماعات مكوكية بين محمود عباس وإيهود أولمرت نتائجها متواضعة جدا. كلّ ذلك لتحقيق النتائج الأميركية الإسرائيلية المرجوّة من عقد المؤتمر وهي ضمان دخول كلّ مَنْ تريدهم أميركا في القفص الإسرائيلي الذهبي.
على رغم تعمّد الولايات المتحدة الأميركية عدم تحديد موعد لمؤتمر أنابولس حتى الآنَ؛ وذلك للرغبة الأميركية في الضمان المسبق لتنفيذ الأجندة الأمروإسرائيلية، فإنّ حملة التسويق والترويج للمؤتمر تتواصل بوتيرة متسارعة؛ فالمتتبع لما تتناقله وسائل الإعلام عن المؤتمر يجد أن المضيف الأميركي وحلفاءه الأوربيين والعرب المعتدلين يحاولون رفع سقف التوقعات، ويعملون على حشد أكبر عدد من الدول، ويطرحون أنّ هذا اللقاء ليس من أجل اللقاء وهو ليس لقاء علاقات عامّة كما تتغنى بذلك كوندوليزا رايس وغيرها من الأغاني الأميركية التي سرعان ما يمضي سحرها في عروق مَنْ يعشق الهوى الأميركي الذي لا يقاوم.
قبل التحدّث عن مؤشرات نجاح مؤتمر أنابولس أو فشله، سنسلط الضوء على سؤال محوري هو: لماذا مؤتمر أنابولس؟ ولماذا الآنَ؟
بحسب الأجندة الأميركية سيركز المؤتمر على إيجاد حل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال دعم المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع وضع آلية للمباحثات من حيث المحتوى والزمن من دون التطرق إلى أي إطار لمعالجة قضايا الحل النهائي (الانسحاب إلى حدود 1967، عودة اللاجئين، القدس، الأسرى، الاستيطان، والجدار العنصري). كما أنّ المؤتمر لن يناقش استمرار احتلال «إسرائيل» هضبة الجولان ومزارع شبعا. والسؤال المشروع: إذا ماذا سيناقش المؤتمر؟ وأيّ الحلول التي سيتوصل إليها إذا كانت هذه أجندته؟ وبجانب هذه الأجندة الضبابية تسعى أميركا وحلفاؤها إلى تحقيق أجندة غير معلنة من وراء عقدها هذا المؤتمر.
إنّ متابعي الشأن السياسي قد فوجئوا بعض الشيء بموافقة أميركا على عقد المؤتمر بعد أنْ كانت ترفض الطلب المصري لعقد مثل هذا المؤتمر لأكثر من أربع سنوات! إذا لماذا وافقت الإدارة الأميركية على عقده الآنَ؟ وبعيدا عمّا يسمّى نظرية المؤامرة إليكم الأسباب:
1. بحث الإدارة الأميركية الحالية المستميت والمحافظين الجدد عن أي انتصار أو إنجاز تحفظ به ماء وجهها ووجه المحافظين الجدد؛ بسبب فشلها الذريع في الحرب على ما تسمّيه الإرهاب في العراق وأفغانستان.
2. ضمان الأمن الأبدي لـ «إسرائيل»، وتخفيف الضغط عن الحكومة الإسرائيلية عموما وحزب «كاديما» خصوصا؛ حتى يتفرغوا لترتيب البيت الإسرائيلي من الداخل والذي مازال يعاني الكثير من تداعيات الضربات الموجعة التي مازالت توجهها المقاومة الفلسطينية الباسلة للاقتصاد الإسرائيلي وجيش الدفاع الصهيوني والهجرة إلى «إسرائيل» وكذلك تداعيات الفشل العسكري الإسرائيلي الذريع في حرب يوليو/ تموز - أغسطس/ آب 2006 على الدولة الصهيونية.
3. إضعاف قوى الممانعة العربية وعزلها عن محيطها العربي (سورية، حزب الله، حركة المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي وغيرها).
4. التفرغ لإيجاد معالجة جذرية لبرنامج إيران النووي.
يمكننا القول من خلال رصد وتحليل تصريحات المسئولين الإسرائيليين والفلسطينيين والدول العربية المعتدلة والدولة العربية المارقة سورية - طبعا وفقا للقاموس الأميركي - وكذلك الرباعية وجامعة الدول العربية، يمكننا القول بموضوعية وتجرد إنّ مؤتمر الخريف (أنابولس) تساقطت أوراقه قبل انعقاده؛ وذلك للأسباب الآتية:
أوّلا: هناك فجوة واسعة بين الموقف الفلسطيني والموقف الإسرائيلي، فالفلسطينيون يطالبون بإطار زمني للمفاوضات والتنفيذ يعالج قضايا الحل النهائي، والإسرائيليون يريدون الحصول على الأمن أوّلا من خلال القضاء على أشكال المقاومة المسلحة كافة وأن يكتفي المؤتمر بإصدار إعلان مبادئ للنوايا الحسنة كما صرّح أولمرت ووزيرة خارجيته سيبي ليفني، يعقبه مباشرة تطبيع كامل مع الدول العربية من باب إبداء العرب حسن النوايا ويطالبون أيضا بعدم التعرّض لقضايا الحل النهائي مقابل التنازل عن بضعة دونمات في القدس الشرقية وابتلاع ثلاثة أرباع القدس وبعض الدونمات في الضفة الغربية! ويصرّ الإسرائيليون على أنْ يتم ذلك وفق المبدأ الذي أسمّوه «التبادلية» الذي يبدو لي أنه انطلى على الرئاسة الفلسطينية.
ثانيا: رسالة الضمان التي قدّمها الرئيس بوش إلى شارون في أبريل/ نيسان 2004 والتي تضمن لـ «إسرائيل» عدم الانسحاب من المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية، هذه المستعمرات التي أصبحت أمرا واقعا بموجب تعهد بوش.
ثالثا: يفاوض الفلسطينيون بجناح واحد ولون سياسي واحد من دون تفويض من المؤسسة التشريعية المعطلة قسرا بمنهجية من قِبل «إسرائيل».
رابعا: يقف اليمين الإسرائيلي صفا متماسكا ضد مؤتمر أنابولس ويقود تحركات محمومة لإفشاله.
خامسا: لأسباب أميركية وإسرائيلية بحتة لم يتم حتى الآنَ إدراج هضبة الجولان ومزارع شبعا على أجندة المؤتمر.
سادسا: استمرار «إسرائيل» جهارا نهارا في سياساتها القمعية الاستيطانية والآحادية ضاربة عرض الحائط جميع القرارات الدولية والمناشدات الخجولة من هنا وهناك لإيقاف تلك السياسات؛ إذ تقوم «إسرائيل» حاليا ببناء سبعة آلاف وحدة سكنية على 11 ألف دونم تمت سرقتها من أراضي بلدة أبوديس وهي مسقط رأس رئيس وفد السلطة الفلسطينية إلى مؤتمر أنابولس أحمد قريع! هناك أكثر من 757 حاجزا في الضفة الغربية، وهناك الاغتيالات والاعتقالات والاجتياحات وتجريف الأراضي الخضراء وهدم المنازل وهناك آخرها وليس أخيرها قرار الحكومة الإسرائيلية وقف التعامل المالي مع قطاع غزّة باعتباره كيانا معاديا وقطع إمدادات الكهرباء والنفط والغاز. كلّ ذلك يجري تحت سمع العالم وبصره.
إني بطبعي لست متشائما ولكني لست متفائلا بنجاح مؤتمر أنابولس فهو في تقديري إنْ عُقِد بالأجندة الأميركية الإسرائيلية التي ذكرناها آنفا فسيكون بمثابة بازار التصفية النهائية للقضية الفلسطينية ومن حقنا أنْ نتساءل: ما الذي حلّ بالقضية الفلسطينية بعد المؤتمرات واللقاءات السابقة مدريد مرورا بأوسلو وواي ريفر وكامب ديفيد الثاني وخارطة الطريق ومؤتمرات شرم الشيخ والعقبة والآنَ نحن صدد مؤتمر الخريف ثم الشتاء فالربيع يعقبه الصيف؟ وكلّ مؤتمر والعرب والقضية الفلسطينية بألف خير.
إقرأ أيضا لـ "عيسى جاسم سيّار"العدد 1892 - السبت 10 نوفمبر 2007م الموافق 29 شوال 1428هـ