التاريخ هو 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1957م. خمسون عاما مضت على حصولنا على إجازة رسمية من سكرتير حكومة البحرين آنذاك المستر سميث، تلك الإجازة تسمح لنا بإنشاء نادٍ في منطقة النعيم تحت اسم «نادي النعيم الثقافي والرياضي».
كنت حينها صاحب مدرسة النعيم الأهلية التي أسستها في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1956م، وكنت حينها لم أزل طالبا بالسنة الثانية من المرحلة الثانوية «كان الطلاب ينتقولن من المدرسة الابتدائية إلى المدرسة الثانوية، حيث لا توجد مرحلة تعليمية متوسطة».
وبطبيعة الحال، كانت الظروف المعيشية قاسية جدا علينا بسبب نفي والدي السيدعلي السيدإبراهيم كمال الدين إلى خارج البحرين، حيث لم يكن أمامي أي خيار سوى العمل ليلا والدراسة صباحا. وبصورة فعلية هذا الذي حدث، فأسست مدرسة أهلية لمكافحة الأمية وتعليم الكبار، وكان مقرها في مأتم النعيم الغربي، فحزمت أمري وتوكلت على الله وبدأت التدريس بعد تزويد الساحة الداخلية للمأتم ببعض الأدراج المشابهة لأدراج المدارس الحكومية، والتي قام بنجارتها الأخوة المرحوم محمد علي زين الدين والمرحوم علي أحمد الوطني والمرحوم علي أحمد السلاطنة، وكنت أتقاضى 5 روبيات كل شهر عن كل طالب (500 فَلس) مقابل تدريسه شهرا كاملا، ولأن الشأن الداخلي في البحرين آنذاك يسير بصورة بعيدة عن الشكوك والتأويلات، فليس من الغريب أني فتحت المدرسة من دون استئذان من دائرة المعارف، وفوق هذا لم تتأخر دائرة المعارف عن تقديم المساعدة لهذه المدرسة، وذلك بعد عام واحد من بدايتها، ففي العام 1958م قال لي أحد المسئولين بدائرة المعارف: «إن هذه المدرسة تعتبر نموذجا حقيقيا وانطلاقة صحيحة لتعليم الكبار ومكافحة الأمية في البحرين»، فأمدتنا الوزارة ببعض المدرسين وأرسلت كثيرا من الكتب المدرسية لتوزيعها مجانا على الدارسين، فأصبح النشاط على أشده وكان شعارنا الحديث النبوي: «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، ودفعنا الحماس إلى افتتاح فرع لتعليم السيدات والفتيات، إذ لم تكن هناك مدرسة للبنات في منطقة النعيم، فكانت الأعوام من 1957 إلى 1960م من أكثر السنوات حيوية في منطقة النعيم بكاملها، حتى إنك لا تجد في المساء رجلا أو امرأة إلا ويحملان «كيسا من الورق» وبداخله الكتب والدفاتر والأقلام، وحين تسأله يجيبك أنه ذاهب إلى المدرسة، ومن الظرفاء الذين تعلموا بشكل جيد، كان يجيب حين يسأله أحد عن وجهة سيره، فيقول: «أنا رايح نحو الأمية».
هذه الفترة الجميلة الزاخرة بالعطاء... كنت فرحا بها، فهي تعينني على الحياة، وهي تؤدي عملا وطنيا شعر به القاصي والداني، حتى أن أحد أندية العاصمة، تبرع لنا ببعض المدرسين، ولكني شخصيا أعفيتهم من تلك المهمة بعد فترة من عملهم معنا، لأنني شعرت أن لهم رسالة أخرى غير التعليم، وكانت رسالة سياسية تتبع ايديولوجية معينة، حيث كان القرار بيدي وليس بيد شخص آخر، وللعلم فقط، فإنني كنت عند تأسيس المدرسة، كنت المدرس الوحيد، وكنت سكرتير المدرسة، وأمين صندوق المدرسة، وفراش المدرسة!
وحين انتقلنا إلى مقر النادي الجديد المستأجر، والذي قدمه لنا الحاج عبدالمحسن الحاج جاسم العلي مقابل إيجار رمزي، والذي حظي بتقدير جميع أهالي النعيم، حين انتقلنا إلى هذا المقر ساعدني الأخ عبدالرسول المصلي، ثم بعض المدرسين من دائرة المعارف.
واذكر تماما في العام 1958، ذهبت من دون موعد لمقابلة المرحوم أحمد العمران مدير المعارف، فقابلني بعد عشر دقائق من الانتظار، فقدمت له شكري وشكر أبناء منطقة النعيم على المساعدات القيمة التي تقدمها دائرة المعارف، فقال لي بالحرف الواحد إذا لم تخن الذاكرة: «اسمع يا ابني... أنت أسست مدرسة جيدة وعليك الاستمرار على هذا المنهج، لأنك تخدم وطنك، وإذا أردت أية مساعدة فلا تتردد... وأنت تدلي مكتبي»، فشكرته مرة أخرى، وكان في نفسي شيء كنت أريد أن أقوله، ولكني كنت مترددا، وبصريح العبارة كنت خائفا، لأنني أمام الأستاذ لأول مرة، لكنه، وبما كان يتمتع به من سرعة البديهة، سألني: «في خاطرك شيء؟»، فقلت له: «يا أستاذ أتمنى لو دائرة المعارف تفتح مدرسة للأولاد ومدرسة للبنات في منطقة النعيم، لأنهم يعانون من بعد المسافة بين النعيم والمدرسة الغربية الابتدائية «مدرسة أبوبكر الصديق» حاليا، ثم أن أكثر أولاد المنطقة ليسوا في المدارس، وجميع بنات النعيم لا يعرفن معنى كلمة مدرسة...»، فشكرني على هذه المبادرة، ووعدني خيرا، وبصورة فعلية أمر بفتح مدرستين في منطقة النعيم، واحدة للأولاد والأخرى للبنات، وطبعا هذا كله بفضل توجه أعضاء مجلس إدارة النادي آنذاك، وحرصهم على نشر العلم بين أبناء المنطقة.
وبسبب النشاط المتميز الذي عرف به النادي، أذكر في العام 1959 حضر إلى النادي تقي محمد البحارنة، والمرحوم عبدالملك الحمر، موفدين من قبل اتحاد الأندية الوطنية، لحثنا وتشجيعنا على مواصلة هذه الفعاليات، وكانا فخورين بما شهداه من نشاطات متميزة من تعليمية وثقافية ورياضية، ومجلة حائط، ومكتبة ومسرح متنقل، حيث كنا نقيم مسرحيات في الأرض المجاورة للنادي، وقد صنع الأعضاء النجارون بأنفسهم خشبة المسرح المتنقل والكواليس التي وضع عليها بعض الرسامين رسومات تعبيرية...
ومن المسرحيات التي قدمناها مسرحية بعنوان: «نهاية طاغية» من تأليفي أنا، وهي تتحدث عن هتلر وألمانيا النازية، إذ اقتبست معظم مادتها من كتب «كفاحي» لهتلر، وتأريخ ألمانيا الهتلرية، ومذكرات تشرشل، ومذكرات رومل، ولن أنسى منظر هتلر وهو على المسرح حين سقط شنبه، فأطفأنا الأنوار ووضعنا موسيقى الحرب من أفلام كومبات، وحين أعدنا إضاءة الأنوار وجدنا هتلر قد لبس شنبه من جديد، وهو يزبد ويرعد حتى يغطي على سقوط شنبه... وكان ساعتها زعلان على وزير إعلامه «جوبلز»...
كما أبدى تقي البحارنة استعداد نادي العروبة ليقيم نادي النعيم نشاطاته المسرحية في قاعة نادي العروبة، وبالمثل أبدى المرحوم عبدالملك الحمر استعداد النادي الأهلي لاستقبال أي نشاط يقوم به نادي النعيم، ويساعد في ذلك مساعدة فعالة، وفي ختام زيارتهما وجها دعوة مفتوحة لأعضاء مجلس إدارة نادي النعيم لزيارة نادي العروبة والنادي الأهلي في أي وقت، وكانت التفاتة جيدة من اتحاد الأندية الوطنية، ومن الأستاذين الكريمين تقي وعبدالملك.
ولم يغفل أعضاء مجلس إدارة النادي المناسبات الدينية وغير الدينية، حيث كان النادي يقيم حفلات بمناسبات المولد النبوي الشريف والإسراء والمعراج وغيرها من المناسبات، حتى مناسبات الزواج كان للنادي يد في إعدادها... خصوصا إذا كان العريس أحد أعضاء النادي.
واستمرارا لسرد بعض المعلومات عن النادي، ومع تداخل الحوادث... أسرد هنا حكاية رحلة النادي «من المأتم إلى مقره الجديد» - وبجملة اعتراضية أود أن أذكر أنني قمت بإعادة بناء المأتم العام 1982، وفاء مني على حسن استقباله لمدرستي في بداية حياتي العملية - أقول بعد هذا... إن الرحلة كانت قصيرة بقدر ما كانت ممتعة وظريفة، فقد صادفنا شهر محرم قبل نهاية شهر يوليو/ تموز 1957، فوقعنا في حيرة من أنفسنا، وكنا لا نزال عاجزين عن الحصول على مقر للمدرسة، لكن الحماس الشديد لدى المتلقين للتعليم آنذاك، دفع الإخوة المرحوم محمد حسن الاسكافي والمرحوم عبدالرسول الاسكافي والأخ الحاج عبدالله الاسكافي «أبناء الحاج حسن الاسكافي» إلى التبرع بمجلس منزلهم الكبير، ليكون مقرا مؤقتا للمدرسة، لحين الحصول على مقر أو العودة إلى المأتم بعد شهر محرم...، وفعلا رجعنا إلى المأتم بعد شهر محرم، وواصلنا مشوارنا مع ما نصادفه من عطل في ليالي القراءات الحسينية ومع عودتنا إلى المأتم، فكرت جديا في كتابة رسالة إلى سكرتير الحكومة آنذاك المستر «سميث»، وذلك مع بداية شهر سبتمبر/ أيلول 1957 - يصادف بدايات شهر سفر العام 1377 هجرية، ولم أتأخر فصغت الرسالة وعرضتها على بعض الإخوة وعددهم ستة فقط من الدارسين في هذه المدرسة، حيث أحسست إن لديهم حماسا لهذه المبادرة فشرحت لهم فوائد تأسيس النادي في المنطقة، وحاجة الشباب إلى الاجتماع فيه بدلا من تشتتهم وتسكعهم في الشوارع، أو جلوسهم أمام الدكاكين دونما فائدة، فازداد حماسهم، وكنت قد سألت عن العدد المطلوب لإنشاء ناد ثقافي أو رياضي، فقيل لي إن العدد المطلوب هو 30 شخصا، فشرحت لهم هذا الموقف «المحرج»، ونحن ستة أشخاص... ماذا نفعل؟
فانبثقت فكرة لدى المرحوم الحاج علي بن أحمد الوطني، وهي أن نكتب أسماء ثلاثين شخصا من الدارسين في المدرسة ومن خارج المدرسة من دون علمهم، ثم نقوم بالتوقيع على الرسالة أمام كل اسم منهم، تارة نكتب الاسم «مخربط»، وتارة نبصم بالإبهام، وتارة نبصم بإصبع آخر، حتى تضيع القضية، فرددت حينها جملة كنت أحفظها «صحيح الحاجة أم الاختراع»، وهنا وجب أن اعترف أنه على رغم علمي بالمخالفة القانونية لهذه الطريقة، إلا أن الظروف كانت غير مناسبة لشرح فوائد هذا المشروع الثقافي لثلاثين شخصا وكم من الزمن سيستغرق حتى يقتنعوا؟
ولأن الظروف غير مهيئة، لا من الناحية العلمية ولا من ناحية الوعي، فقد اضطررنا مجبرين لاتباع هذا الأسلوب المخالف للقانون، وقلت للجماعة، شوفوا يا إخوان... هي «مغامرة»، إن نجحت نجحت، وإلا فأمرنا إلى الله، فأخذت الرسالة بنفسي بعد توقيعها على تلك الصورة إلى دار السكرتارية وسلمتها لمكتب المرحوم الحاج سعيد الزيرة، المدير العام في دار السكرتارية كما كان يطلق عليه.
وكم كانت المفاجأة سارة جدا حين استلمنا الرد من دار السكرتارية بالموافقة على فتح النادي برسالة مؤرخة في 29 أكتوبر 1957، مقرونة بشرط وضع دستور للنادي وإيجاد مقر له، ومن هنا بدأت رحلة نادي النعيم الثقافي.
ولشدة فرحنا وحماسنا، لم نضيع الوقت، حيث صادف أن كان في المدرسة رجل فاضل اسمه الحاج جاسم المرخي، وحين سمع بالخبر، وعلم بالحيرة التي نحن فيها، تقدم بكل أريحية بالتبرع للنادي مجانا بالطابق العلوي من بيتهم الذي بناه حديثا، بصورة مؤقتة إلى حين حصولنا على مقر دائم...، فحمدنا الله وشكرنا لهذا الرجل إنسانيته وتضحيته.
فانتقلنا فورا إلى هذا المقر الجديد، وهو مكون من غرفة واحدة، وصالة كبيرة، فاستعملنا الغرفة للإدارة، والصالة للتدريس، ثم بدأنا بتنفيذ الشرط الثاني وهو صوغ دستور للنادي، فذهبت إلى نادي العروبة، وطلبت من سكرتيره آنذاك المرحوم حسن المدني، نسخة من دستور ناديهم، فسألني لماذا قلت له لنصوغ دستورا لنادينا على شاكلته، ففرح كثيرا، وإعطاني نسختين، ولم أتمالك نفسي من الفرح، فاستدعيت الإخوة أعضاء مجلس الإدارة الذين اخترتهم بنفسي (لا انتخاب ولا هم يحزنون)...، وعددهم سبعة، واتفقت معهم على ليلة واحدة في الأسبوع نجتمع فيها لصوغ دستور للنادي، وأطلقنا عليها «ليلة الدستور»، ومن الطريف أننا وضعنا ضوءا أحمر على باب النادي، وكنا نشعله عند اجتماعنا في ليلة الدستور...!
فكان إذا حضر الأعضاء وشاهدوا «الضوء الأحمر»، يعودون من حيث أتوا، وقد نالت تلك الليالي الدستورية ما نالت من التعليقات الطريفة، حتى إن أحد الظرفاء قال حين استبطأ الموضوع: «أن هذا الدستور سيوزع علينا يوم القيامة»...!، ومن الطريف أيضا أننا اتخذنا هذا الأسلوب سنة لنا، ذلك عند اجتماع مجلس الإدارة «بعد أن انتهينا من وضع الدستور»، مارسنا طريقة «الضوء الأحمر»، وبأساليبهم المرحة كان الأعضاء يطلقون تعليقاتهم الطريفة، حتى حانت الفرصة الذهبية لنا، وانتقلنا إلى بناية جديدة، قدمها للنادي كما أسلفت الحاج عبدالمحسن بن الحاج جاسم العلي، وبكل أريحية ومحبة لم يكن يأخذ إلا إيجارا رمزيا، وهي بادرة تحسب لهذا الرجل، كما تحسب للحاج جاسم المرخي، وللإخوة أبناء الحاج حسن الاسكافي.
ولاتزال هناك ذكريات محفورة في الذاكرة، أتمنى أن تتاح لي الفرصة لتسجيلها في كتاب الذكريات.
العدد 1891 - الجمعة 09 نوفمبر 2007م الموافق 28 شوال 1428هـ
الله يعطيكم الصحة والعافية