في الجزء الأخير من سلسلة «الجماعات الإسلامية وتديين السلطة بالتقسيط» تبدأ الباحثة الحديث من حيث انتهت في الجزء الثالث وهو «الاسلام السياسي الشيعي»، وقبل ان تنتهي السلسلة تعود الباحثة الى حيث بدأت لتعيد ربط ما أثاره عدد من الكتاب العرب لواقع الإسلام السياسي في تحالفاته مع أنظمة الحكم وانقلابهما.
تعد جمعية الوفاق الوطني الإسلامية - بحسب النجّار - أكبر التجمعات السياسية الشيعية البحرينية، وهي أقرب إلى حالة التنظيمات الجماهيرية السياسية، ذلك ما يتضح في أطروحاتها وممارساتها والدعم الجماهيري لها. وهناك جمعية العمل الإسلامي التي تمثل أحد فصائل الشيرازيين ويعلو في خطابها المضامين السياسية على الدينية، وجمعية الرسالة الإسلامية التي تمثل فصيلا آخرَ منهم ويطغى على خطابها المضامين الدينية - الوعظية على السياسية، و «الرابطة الإسلامية» التي تمثل ما يسمى في البحرين «جماعة المدني»، وجمعية التجديد الثقافية الاجتماعية، وهي الواجهة السياسية لجماعة السفارة.
«الوفاق» في حالتها الآنية، تعتقد أنها أقرب إلى تمثيل المجتمع الشيعي بطبقاته الاجتماعية المختلفة ولقطاع كبير من الشرائح الوسطى والدنيا والطبقة الوسطى الجديدة والطبقات الدنيا من المجتمع الشيعي ذي الجذور الريفية، وهي توظف الدين ايديولوجيا سياسية؛ ما لا يتيح لها اختراق الطبقات المتعددة من أصحاب الحِرَف والمهن والاختلافات الإثنية والقبلية. فالدين - بصفته عاملا اجتماعيا من وجهة نظر المؤلف - قادر على شطر المجتمع عموديا وتجميع فئاته على أسس تتجاوز الطبقية والقبلية والإثنية والنوع، ويتجاوز تأثيره العناصر والمتغيّرات الطبقية والاجتماعية والايديولوجية الأخرى.
«الوفاق» لا تمثل جماعة موحّدة الصفوف من حيث مكونات خطابها الايديولوجي والفكري أو أولويات مطالبها السياسية والاجتماعية، ولاسيما أنّ بعض عناصرها مازالوا متأثرين بأطروحات حزب الدعوة وآخرين يتبنون ايديولوجيا حزب الله، أو يتبع الحوزة الدينية في النجف الأشرف أو بعض رجالات الدين في حوزة قم، وبعضهم يأخذ بمقولة ولاية الفقيه ويتبعها. هناك تباين في وجهات النظر واختلاف في الخطاب، فمنهم المتشدد الذي ينزع نحو المواجهة، ومنهم المعتدل.
ومن خصائص هذه الجمعية، اقترابها من سمات الأحزاب الاحتجاجية المماثلة للمنظمات اليسارية المتطرفة كالمنظمات التروتسكية والماوية أو المنظمات اليمينية المتطرفة، حيث تسعى إلى شق طريقها وسط الجماهير بإثارة قضايا ذات طابع شعبي واستثمار عجز السلطة عن حل مشكلات الفقر والبطالة وغيرها، كما أنها تنزع إلى فرض نفسها على المشهد السياسي بتبني لغة سياسية فظة، وهي بذلك تعبّر عن طبيعة صراع الايديولوجيات القائمة في أوساط جماعاتها السياسية المختلفة، بمعنى صراع القوة بين الأجنحة داخل الجمعية، فضلا عن التعبير عن طبيعة الثقافة السياسية السائدة في فضائها الاجتماعي - الاقتصادي.
وعليه، يتوصّل إلى أن تبني «الوفاق» لغة سياسية متشددة، هو في حقيقته تعبير عن افتقارها إلى قدر كبير من الانسجام الداخلي والقدرة على اتخاذ المواقف الموحّدة من القضايا المطروحة في الساحة البحرينية، ذلك لا يعني خلوها من عناصرَ محدودة العدد تتسم بالاعتدال في أطروحاتها السياسية، حيث لا ترى أيّ ضير في أن يكون لها ممثل في السلطة التنفيذية وذلك لاعتبارات مصلحية، منها حل بعض المشكلات المعيشية للطائفة.
العلاقة القائمة بينها وبين رجال الدين علاقة معقدة وغير واضحة في بعض الجوانب؛ ما يجعل بعض قادتها يتقرب من الرموز الدينية أثناء الأزمات والحوادث المهمة سعيا وراء استصدار فتوى مؤيّدة لمواقفهم أو ضد الآخرين تقوي من مواقعهم في الجمعية أو المجتمع، وقد وجدت الجمعية نفسها متبنية بعض المواقف المتشددة «مثل: الموقف الرافض لإصدار قانون موحّد للأحوال الشخصية»، وكذلك المشاركة السياسية للمرأة؛ بسبب هذه العلاقة وغياب التفكير الاستراتيجي.
ماذا بعد؟
هل من مشترك بين هذا التنوع لتمثلات حركات الإسلام السياسي البحريني بشقيها؟
للإجابة، يفيدنا الكاتب، أنه على رغم الاختلافات المذهبية والايديولوجية بين تنظيمات الإسلام السياسي المختلفة السنية مقابل الشيعية، وفصائل الإخوان المسلمين مقابل الجماعة السلفية، وحزب الدعوة مقابل حزب الله، فإنّ ذلك لا ينفي التقاءها في بعض السمات في خطابها الشمولي، أو تبني بعضها العنف آلية للنضال ضد الآخر والدولة، أو بهدف إقامة دولة الخلافة الإسلامية، أو اتباع مبدأ «الضرورات تبيح المحظورات»، فإنها بمجملها تتوافر/ تتشارك في موقف عدائي للغرب والولايات المتحدة الأميركية تحديدا، على خلاف الحالة التركية، كما تشترك في السعي إلى تحقيق هدف العناية بالدين وتحصينه ضد الأفكار المستوردة والدعوة إليه، والمحافظة على القيم الإسلامية والتراث والتأكد من التزام المجتمع بالتعاليم الإسلامية وتشجيع أعمال البر والخير ومناصرة الحق والعدل ومكافحة الرذيلة بالقول والفعل.
وتحقق هذه الأهداف عن طريق المحاضرات والندوات والحلقات الدراسية والمجلات الخاصة بها، ذلك ما يتم عبر أنشطة الجمعيات في لجان الزكاة والأنشطة الثقافية الدينية والترفيهية والمساعدات الخيرية واللجان النسائية وتنويع الموارد المالية والأسابيع التضامنية وغيرها.
ويختم المؤلف، بأن العنف مثل أداة نضالية مهمة في ايديولوجيا القوى القومية وحركة الإخوان المسلمين في صراعها مع الدول العربية والقوى السياسية الأخرى، قبل تحوّلاتها الفكرية الأخيرة، كما مثّلت الثورة الإيرانية منهلا للشحن السياسي والتشكيل الايديولوجي لجماعات الإسلام السياسي الشيعي؛ ما قاد إلى تحوّلات في نظرة هذه القوى لذاتها وفي علاقتها بالدولة والقوى السياسية الأخرى، وإلى أدوات المواجهة، بَيْد أنّ بعضها استغرقه الأمر لأكثر من عقدين من الزمن كي يعقلن خطابه السياسي ويستبدل علاقته بالآخر بمنطق الحوار والتواصل عوضا عن منطق المواجهة والعنف، وهناك تحوّلات جرت على علاقة التحالف بين الجماعات الإسلامية مع مؤسسات الحكم حيث اتجّه بعضها إلى العمل على مناهضتها؛ ما انعكس على ازدواجية في تبني المواقف المعلنة والمستترة من ظاهرة الإرهاب، وهي - أي الجمعيات - لا تتساوى من حيث القوة والفاعلية والدور الاجتماعي، وأن المضامين السياسية والاجتماعية في خطابها الديني هي الأخرى لا تتماثل كما أنها تعاود الكَرّة مرة بعد أخرى لتأكيد هدفها في إقامة الدولة الإسلامية، أو أسلمة المجتمع بالإكراه أو الترغيب.
فمشاريع تديين السلطة «التقسيطية» - أي التي تتم بالتقسيط - التي تأخذ بعدا زمنيا واسعا وعبر عدّة طرق من أهمها آلية التعليم، ومشاريع القوانين والمراسيم والاقتراحات التي تطرح في البرلمان وتؤدّي في غالبيتها إلى شكل من أشكال الدولة الدينية، وتطويع محطات التلفزة والإذاعة والصحافة، فالسيطرة على مؤسسات الدولة لهذا الغرض هي في المحصلة النهائية سمة من سمات الدولة الدينية، فليس من الضروري أنْ يؤمن الناس بالدين ويمارسوا طقوسه، وإنما أنْ تكون الدولة فارضة قسرا تفسيرها الدينَ المتمثلَ في بعض جماعات الإسلام السياسي وتطبّقه على سلوك الناس وإدارة الدولة.
وتوصل أخيرا إلى أنّ هذه الجماعات ستأخذ دورتها في الصعود ثم الهبوط وهي الآنَ قد بلغت قمّة الهرم أو «ذروة القوة»، وأنّ أفولها قد يأخذ بعض الوقت استنادا إلى مقدار التطور النوعي الذي ستكون عليه المجتمعات، وقدرتها على تجاوز التضامنيات التقليدية والتعاطي مع المعطيات بعقلية واقعية وإحداث تحولات أساسية في ذاتها وممارستها العملية وخطابها الداخلي وعلاقتها بالأطر الحداثية والقوى الاجتماعية والسياسية القائمة في محيطها، ذلك لربما يطيل من عمرها!
تحليل علمي ورزين ولكن...
لا ريب في أنّ تشخيص ناهض حتر وقراءة صادق جلال العظم واقع الإسلام السياسي في تحالفاته مع أنظمة الحكم وانقلابهما على بعضهما بعضا يضاف إليه ازدواجية خطابه السياسي والاجتماعي وخضوعه لمصالح الجماعات الإسلامية، وكذا قراءة باقر النجّار فيما سبق أن تناولناه، يعد تحليلا دقيقا ويلامس الواقع في بعض عناصره المتشابكة، بل إنّ الأخير يتميز بقدر لا يستهان به من الرزانة العلمية والموضوعية، ولاسيما أنه على بيّنة بمجمل تأثير المتغيرات البيئية التي أثرت على هذه القوى وتنظيماتها، بَيْد أن ذلك التشخيص والتحليل يشوبه نقص نوعي لا يستهان به أيضا، هذا النقص له صلة بالإجابة عن أسئلة عدة لها أبعاد تاريخية ومصالح قوى اجتماعية وسياسية متضاربة وتفاعلات سياسية واجتماعية مازالت حاضرة.
من بين تلك الأسئلة: ما الذي ساعد على نشأة هذه التجمعات وتهيئة البيئة الحاضنة التي ترعرعت فيها وتربت؟ وكيف؟ فضلا عن نوعية ومقدار الرعاية والدلال والإمكانات المادية والمعنوية التي توافرت لديها؟ ما الذي يستتر خلف خطاباتها المتشددة؟ ما الأزمات الاجتماعية والمعيشية والسياسية التي أفسحت لها المجال؛ لتلتهم فرصها التاريخية في الوصول إلى أوسع القطاعات الجماهيرية كي توهمها بأنها تتبنى مشكلاتها وهمومها وطموحاتها وستصل بها إلى بر الأمن والأمان الاجتماعي؟
هناك الكثير ممّا لم يتم التوسّع فيه وخصوصا فيما يتعلق بفشل الدولة ومؤسساتها في تحقيق بعض المشروعات التنموية الأساسية التي تحتضن الإنسان وتحصنه وتحفظ كرامته في هذه المجتمعات! هناك الكثير ممّا يستوجب بسطه والتمحيص فيه لاستكمال فصول هذا الكتاب القيّم والتحليل ذي البصيرة النافذة!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1884 - الجمعة 02 نوفمبر 2007م الموافق 21 شوال 1428هـ