فشلت الأطراف اللبنانية في تأمين النصاب القانوني لعقد جلسة الثلثاء (أمس) النيابية لانتخاب رئيس للجمهورية. وخوفا من الوقوع في مطب الفراغ الدستوري سارع رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى تعيين جلسة ثالثة، وربما الأخيرة، في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
الجلسة الثالثة ينبغي أن تكون حاسمة؛ لأنها تأتي قبل الأيام العشرة الأخيرة من نهاية فترة حكم الرئيس الحالي أميل لحود. وفي حال لم تتوصل الأطراف إلى حل توافقي بشأن الرئيس ومواصفاته يرجح أن تنزلق الأزمة إلى منطقة خطيرة قد تودي بالكيان السياسي وتشرذمه إلى دوائرَ طائفية ومذهبية يتحكم فيها أمراء الحروب والمناطق والطوائف.
خطر انشطار لبنان إلى وحدات «فيديرالية» ليس مفتعلا في حال أجريت مقارنة بين حال الفوضى التي يمر بها وتلك الحالات المشابهة له في العراق وغزة. فالفوضى تعني انعدام السلطة. والفراغ في السلطة يشجع القوى الأهلية التي تسيطر على ميدان المقاطعة على التفكير في بناء إدارة ذاتية تشرف على شئون المحلة أو المنطقة أو الدائرة كما حصل في شمال العراق وجنوبه ووسطه وغربه أو كما فعلت «حماس» في القطاع.
هذه المخاوف من المجهول دفعت القوى المحلية والإقليمية والدولية إلى التحرك. دوليا أرسلت أوروبا ثلاثة وزراء خارجية (فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا) للبحث في الموضوع وأجرت اتصالات وحذرت من خطورة الانهيار. تركيا أيضا أرسلت وزير خارجيتها محاولا التوفيق بين وجهات النظر بتنسيق مع دمشق. الفاتيكان أرسلت مبعوثها الخاص في سياق قراءة عامة تريد توحيد الشارع المسيحي لتجنب الاصطدام بواقع ديموغرافي (سكاني) يعطل على الكتلة المسيحية إنقاذ موقعها الأخير في المشرق العربي.
تصادفت هذه الاتصالات الدولية والتركية مع تحركات إقليمية ومحلية. مصر مثلا قررت إرسال وزير خارجيتها أحمد أبوالغيط غدا (الخميس) للبحث في مخارجَ قانونية تنقذ لبنان من التورط في أزمة مفتوحة. وتأتي زيارة وزير الخارجية المصري على خلفية لقاءات واتصالات أجراها قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان في القاهرة شملت كبار المسئولين وعلى رأسهم الرئيس المصري حسني مبارك.
زيارة قائد الجيش اللبناني لافتة للنظر فهي شملت مجموعة نقاط من بينها مسألة الرئاسة. الجنرال سليمان يعتبر أحد المترشحين غير الرسميين لهذا المنصب وهذا يعطي إشارة خفية إلى وجود بدائلَ غير معلنة في حال وصلت الأزمة الدستورية إلى حائط مسدود. فهل يمكن القول إن قائد الجيش سيكون بمثابة «ملاذ أخير» للمشكلة؟
هناك علامات استفهام بشأن الموضوع. فالجنرال لم يؤكد أو ينفي عزمه تقديم ترشيحه. فهو ترك المسألة غامضة ومفتوحة على احتمالات. والسبب أن من يريد الترشح فعليه أن يقدم استقالته من منصبه الرسمي العام قبل ستة أشهر من اقتراب موعد الاستحقاق، وهذا لم يفعله. وبما أنه لم يستقل قبل ستة أشهر فمعنى ذلك أن الدستور يمنعه من ترشيح نفسه إلا في حال واحدة، وهي أن نواب المجلس يجتمعون بغالبية نصاب الثلثين يعدلون مادة «لمرة واحدة فقط» تجيز لمن يتولى منصبا في إدارة الدولة العامة أن يترشح. تعديل المادة يفتح الباب أمام أكثر من مسئول كبير من بينهم قائد الجيش أو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
زيارة أبوالغيط التي يتوقع أن تبدأ غدا لن تكون مجرد محاولة لاكتشاف منافذَ للأزمة وإنما يرجح أن تبحث مع الأطراف المعنية الأسماءَ البديلةَ في حال اصطدمت الاتصالات الأخيرة بمواقفَ متصلبة.
الاتصالات الأخيرة تسير على أكثر من خط محلي. فهناك اتصالات مباشرة بين بري ورئيس كتلة تيار «المستقبل» سعد الحريري. وهناك اتصالات مسيحية - مسيحية برعاية البطريرك والكنيسة المارونية أسفرت عن تشكيل «لجنة رباعية» تألفت من «8 و14 آذار» للبحث في صيغة معدلة تؤمّن النصاب القانوني لاختيار رئيس غير محسوب على طرف معين. وهناك اتصالات مباشرة حصلت بين رئيس «التيار الوطني الحر» الجنرال ميشال عون والرئيس الأعلى للكتائب اللبنانية الشيخ أمين الجميِّل.
ثنائيات محلية
اتصال الجنرال عون بالجميِّل مهم للغاية؛ لأنه يأتي بعد خلافات عنيفة بين القطبين نشأت إثر اغتيال الوزير والنائب الشاب بيّار أمين الجميِّل والتنافس الحاد الذي تم بين الطرفين لانتخاب النائب البديل للمقعد الماروني في دائرة المتن الشمالي. ويشكل الاتصال الثنائي محاولة أولى لكسر حلقات العزلة التي طرأت على الطرفين وأدت إلى نوع من الانقطاع وعطّلت على الكنيسة استكمال مهمة التواصل الداخلي بين الرعية.
مجرد حصول الاتصال بين القطبين يشكل خطوة مبدئية لابد منها لتحقيق الاختراق ومد الجسور بين قوى مسيحية تلعب الدور الرئيسي في تحديد المواصفات المطلوبة لمنصب الرئاسة. وفي حال تواصل الأمر في الأسبوعين المقبلين فإن الصورة ستتضح معالمها انطلاقا من رؤية مسيحية خاصة لها مصلحة في إدارة اللعبة بالاتجاه الذي ترى فيه مصلحة للبنان في السنوات الست من ولاية الرئيس الجديد.
احتمالات كثيرة يمكن افتراضها لقراءة خلفيات لقاء الجنرال عون والجميِّل. فهناك من يقول إنها جاءت ردة فعل على اتصالات الحريري وبري وبالتالي فهي محاولة مسيحية - مارونية لانتزاع القرار من الطرف المسلم (السني - الشيعي). وهناك من يقول إنها تريد الحد من الاستقطاب السياسي الذي يقوم على ثنائيتين: الأولى ثنائية وليد جنبلاط وسمير جعجع. والثانية ثنائية الجنرال عون وحزب الله. وهناك من يقول إنها محاولة يائسة لتشكيل ثنائية ثالثة تجذب الانتباه إلى وجود قاعدة مسيحية مشتركة تستطيع التوافق على رئيس من دون تدخلات محلية (طائفية ومذهبية) أو تدخلات عربية وإقليمية ودولية.
هل لقاء الجنرال عون والجميِّل يشكل محاولة للرد على الاستقطابات الثنائية الطائفية والمذهبية أم هو خطوة للمصالحة بين الفريقين باتجاه توسيع دائرة التخاطب السياسي تمهيدا للتوافق على اسم الرئيس ومواصفاته أم أن اللقاء جاء خوفا من توصل القوى العربية والإقليمية والعالمية إلى حل وسط يأتي في سياق مفاوضات خارجية؟
الجواب النهائي يحتاج إلى وقت لتوضيح خطوطه. اللقاء مثلا يمكن تفسيره أنه محاولة لقطع الطريق أمام احتمال اختيار «قائد الجيش» مخرجا للأزمة وبالتالي إن عون والجميِّل يريدان تحديد مواصفات لا تنطبق بالضرورة على شخصية الجنرال سليمان. وربما أيضا يشكّل اللقاء الثنائي محاولة للتوفيق بين تيار يمتلك كتلة برلمانية، ولكنه لا يتمتع بغالبية تسمح له بانتخاب رئيس. وربما يشكّل اللقاء وسيلة للتفاهم على صيغة دستورية مرنة تنقذ البلاد من مأزق دستوري وتفتح الباب لاختيار رئيس تتوافق عليه الكتل النيابية من خارج البرلمان.
المسألة معقدة وتخضع لتأويلات متناقضة، ولكنها كلها مرهونة بمجال قناعات الأفراد ومرتبطة بمدى استعداد التيارات السياسية لتقديم تنازلات قاسية. فهل الجنرال عون مستعد للتنازل عن طموحه إلى الرئاسة للجنرال سليمان المدعوم كما يبدو عربيا وإقليميا ودوليا؟ وهل القوى المؤيدة للجنرال عون في الشارع والبرلمان توصلت إلى قناعة أن الرئيس لابد أن يكون من خارج القوى الفاعلة ميدانيا؟ وهل التيار الذي يؤيد ترشيح بطرس حرب أو نسيب لحود بات على استعداد للتراجع عن فكرة مترشح الغالبية البرلمانية هو الرئيس الوحيد للجمهورية اللبنانية؟
الأسئلة هذه تحتاج إلى أجوبة لتوضيح معالم الصورة. فالرئيس الجميِّل عبّر عن مخاوفه من انهيار الكيان وطالب بمنع هذا الاحتمال السلبي من خلال تفاهمات تحصل قبل وقوع الكارثة. الكارثة إذا واردة في حال لم يحصل التوافق. وإمكانات منع حصولها واردة في حال حصل التوافق قبل 12 نوفمبر المقبل. فهل تنجح الاتصالات الدولية والإقليمية والعربية والمحلية في إنقاذ الكيان من الانهيار أم أنها ستكون مجرد محاولات أو مناورات فاشلة في دائرة جغرافية معرضة دائما للانهيار أو الانفجار؟
الجواب يصعب تحديده قبل تبلور عناصر الصورة. الجنرال عون يبدو حتى الآن في مكانه ولا يريد التنازل مهما كلف الأمر. الجنرال سليمان لم يترشح حتى الآن تاركا المسألة إلى الأيام العشرة الأخيرة. قوى «14 آذار» تتمسك بحقها الدستوري في اختيار رئيس من الغالبية البرلمانية. قوى «8 آذار» تتمسك بقدراتها الذاتية وحقها الدستوري في المشاركة في الاختيار. ومختلف القوى السياسية تتجه حتى الآن إلى تغليب الخيار الدستوري العادي وعدم الاضطرار إلى تعديل مادة في الدستور تفتح الباب أمام تأويلات تذكّر بذاك الانقسام الأهلي/ السياسي الذي عصف بلبنان بعد التمديد للرئيس الحالي ثلاث سنوات.
هناك مشكلة فعلا وهي كلها محكومة في النهاية بالسقف الدولي/ الإقليمي ومدى حرص الأطراف على إنقاذ لبنان من أزمة مفتوحة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1874 - الثلثاء 23 أكتوبر 2007م الموافق 11 شوال 1428هـ