وصل أمس الأول إلى بيروت ثلاثة وزراء خارجية لثلاث دول أوروبية (فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا) وعقدوا لقاءات مع أطراف لبنانية وتدارسوا معها إمكانات انتخاب رئيس للجمهورية في الموعد الدستوري.
وتصادف وجود وزير خارجية تركيا في العاصمة اللبنانية حين باشر الوزراء الثلاثة اتصالاتهم. فالوزير التركي بحث بدوره موضوع الرئاسة وتمنى على الأطراف المعنية التوافق على اسم رئيس يلبي رغبات وحاجات كل اللبنانيين.
موضوع الرئاسة في لبنان خرج من دائرة البلد الصغير وتحول إلى مادة نقاش يجرى بحثها على المستويين الإقليمي والدولي. وهذا الأمر يدل على أهمية الموقع ورمزيته في دائرة «الشرق الأوسط الكبير». فالرئيس اللبناني هو الرئيس المسيحي الوحيد في المشرق العربي والعالمين العربي والإسلامي. وهذه الرمزية لها معنى لدى دول الغرب التي تجد أن المحافظة على هذا الموقع وتعزيزه وتطويره يشكل نقطة إيجابية في منطقة استراتيجية تتعرض إلى تجاذبات دولية من محيطها إلى خليجها.
المخاوف الأوروبية على «الرمزية» المسيحية في لبنان لها ما يبررها سياسيا في شرق المتوسط في اعتبار أن الأقليات المسيحية في هذه المنطقة تعتبر الأقدم تاريخيا، ومنها انطلقت البعثات والوفود والرسل إلى أوروبا للتبشير بالدين الجديد وبناء الكنائس وترجمة الإنجيل وشرحه وتفسيره.
هذه الأقليات المسيحية الموغلة في القدم والمتجذرة في تكوينها الثقافي تتمتع بخصوصية ولها مكانتها في التأثير على أوروبا وموقعها في حوض الحضارات المتوسطية. ومثل هذا الموقع المعزز بالدور السياسي والوظيفة الثقافية ترى فيه دول أوروبا نافذة للتأمل والحوار وبناء الجسور وترميم «ثغرات» تشكلت تاريخيا بسبب الصراع الدائم بين الإسلام والغرب.
الرئاسة في لبنان هي واحدة من «الأيقونات» المسيحية التي تحرص أوروبا على حمايتها والاحتفاظ بها وإخراجها من متحف التاريخ حتى تلعب دورها الخاص في دائرة تتمتع بمكانة في الذاكرة الجمعية. أوروبا خائفة على المسيحيين في لبنان ولكنها أيضا حريصة على مصالحها واستثماراتها وحاجاتها للثروة والسوق والتوظيفات، ولذلك تعمل دولها على الربط أو التوفيق بين موقع رمزي تحتاجه للحوار ومساحة جغرافية غنية بالطاقات الواعدة وتتمتع بحيوية اقتصادية في حال استقرت فيها الأوضاع السياسية.
هذه النزعة للتوفيق بين الموروث (الماضي المسيحي) والحاضر (المصالح الآنية) اصطدمت دائما بمتغيرات ديموغرافية (سكانية) ونزاعات دولية وإقليمية بررت نهوض اتجاهات سياسية متطرفة ساهمت في تخويف الأقليات وشجعتها على الانتقال أو الرحيل أو الاغتراب أو الهجرة الدائمة. هذا ما حصل مثلا ضد الأرمن في تركيا بعد الانقلاب «العلماني» على السلطنة العثمانية في مطلع القرن الماضي. وتكرر الأمر في فلسطين حين أقدمت دول الغرب على دعم الحركة الصهيونية وطرد أصحاب الأرض من بلادهم فاضطر المسيحيون إلى المغادرة خوفا من حركة الاستيطان. وأيضا حين اتخذت إدارة جورج بوش قرار غزو العراق في 2003 تولدت حركات عنف وتطرف دفعت بالأقليات المسيحية إلى النزوح والهروب أو المغادرة النهائية. حتى في مصر ولبنان وسورية وغيرها من دول تراجع فيها موقع الأقليات لأسباب ديموغرافية وسياسية عصفت بالمنطقة بعد تأسيس «إسرائيل» وظهور عصر الانقلابات العسكرية وما رافقها من اضطرابات وتشنجات وحروب عربية - إسرائيلية من نهاية أربعينات القرن الماضي إلى مطلع القرن الجاري.
أوروبا والأقليات في المشرق
الخطر على الأقليات في المنطقة العربية - الإسلامية تتحمل مسئوليته في الدرجة الأولى السياسات الدولية المعادية للعرب والمسلمين وما أنتجته من سلوكيات غير أخلاقية وغير عادلة. فهذه السياسات العدوانية التي استخدمت وسائل غير شرعية للاستيلاء على الثروات واقتحام الثغور وإقامة المستوطنات ساهمت في توليد دورة عنف داخلية أثارت المخاوف عند الأقليات وزعزعت الثقة مع الغالبيات وشكلت ثقافة سياسية محلية تشكك بالولاءات وتطعن بصحة التزام كل مخالف في دينه أو لونه أو ثقافته. وفي حال مراجعة المحطات التاريخية في الفترات القريبة الماضية ليس صعبا الربط بين أخطاء السياسات الدولية وافتراء الغرب على المسلمين وقرارات الظلم ضد العرب وبين ردود الفعل المحلية التي أثارت الشكوك وعززت مخاوف الأقليات وشجعتها للهروب أو التقوقع والانعزال أو النزوح أو الهجرة الدائمة بحثا عن ملاذ آمن.
هجرة الأقليات من المشرق العربي تتحمل مسئوليتها المباشرة الدول الأوروبية التي اتخذت قرارات ظالمة ووقعت على اتفاقات تقسيم (سايكس - بيكو) وأبرمت معاهدات تقاسم نفوذ وأعطت الوعود (بلفور) خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها. هذه السياسة الاستعلائية الفوقية التي استخفت بالمنطقة وتعاملت معها من دون احترام لتاريخها ومن دون تقدير لمصالحها ووجودها ومستقبلها ولدت ردود فعل غاضبة من الغالبيات والأقليات، لأنها أسست عداوات سياسية أهلية ومزقت توافقات وتعهدات وضمانات حافظت على تمايزات القوى على امتداد قرون.
هذا التغيير القسري لعلاقات تقليدية وتاريخية بين الجماعات الأهلية في المشرق العربي ولد فراغات ثقافية وأنتج نزاعات على هوية جديدة وبديلة. فاتجه البعض إلى المطالبة بالعودة إلى الخلافة الإسلامية، واتجه البعض إلى «القومية» كقوة جامعة للشتات العربي، واتجه البعض إلى «الكيانية» بصفتها الشكل السياسي الواقعي للتغيير، واتجه البعض إلى الماضي السحيق يبحث عن هويات وثنية قديمة سابقة للإسلام والمسيحية (الفرعونية، الفينيقية، والآشورية).
شكل هذا التبعثر في الهويات مجموعة ولاءات سياسية زادت من التشنجات ورفعت درجة سخونة المشاحنات الطائفية والمذهبية فدفعت بسببها الأقليات ضريبة مضاعفة زادت من قلقها على وجودها وديمومتها فقرر الكثير من رعاياها الرحيل إلى أوروبا أو أميركا (الشمالية والجنوبية) أوأستراليا من دون تخطيط أو تفكير بالعودة.
المسألة الديموغرافية في لبنان مهمة للغاية وهي ليست مختلقة وإنما واقعية في تأثيراتها الثقافية ورؤيتها للمنطقة وعلاقاتها وتوازناتها. فالتركيبة السكانية تلعب دورها السياسي في تشكيل قناعات وتأسيس مواقع وتلوين المحيط الاجتماعي بأفكار أو مشروعات. وهذه النقطة المهمة تبدو مهملة في الاتصالات والاجتماعات واللقاءات الدولية والإقليمية التي تحصل بشأن انتخابات الرئاسة اللبنانية واختيار رئيس جديد للجمهورية.
المحافظة على الموقع مسألة ضرورية ولابد من تطمين الأقليات في المشرق العربي بوجود خيارات سلمية ومعابر طرق وجسور حوار. وهذه النقطة مهمة لأنها تعطي صدقية لحضارات شرق المتوسط وتؤكد من جديد على أهمية التواصل والتفاعل لبناء عالم متنوع في فضاء دولي متشنج تقوده سياسة أميركية متهورة ومنحازة بالمطلق لدولة ترفض الاعتراف بالآخر ولاتحترم هويته وحقوقه ومصالحه.
حرص وزراء خارجية ثلاثة دول أوروبية كاثوليكية على تشكيل وفد مشترك والاتصال بالأطراف اللبنانية للتفاهم على رئيس ماروني (كاثوليكي) للدولة مسألة ملفتة للنظر وهي تعطي إشارة عن انتباه «متأخر» لخطورة السياسات الدولية ودورها السلبي في تخويف الأقليات واقتلاعها من منطقة شكلت منارات حضارية على امتداد قرون.
الاهتمام الأوروبي بالرئاسة اللبنانية مسألة جيدة لأنها تعطي مساحة للتأمل تتجاوز حدود البلد الصغير وتفتح نافذة من لبنان للإطلال على محيطه وماتعنيه فكرة المحافظة على الأقليات من رمزية تاريخية وثقافية تعيد تشكيل توازنات زعزعتها سياسات دولية ماكرة وخبيثة. فهل تبدأ أوروبا بتصحيح حركة تاريخ مضى وتأخذ بقراءة رمزية لموقع الرئاسة في لبنان بصفته المكان الذي يجب المحافظة عليه في إطار سياسة منفتحة تستهدف توحيد المنطقة وليس تمزيقها إلى دويلات طوائف ومذاهب كما جرى في مطالع القرن الماضي؟ التقسيم بعثر الأقليات وأضعفها وطردها من المنطقة فهل يكون التوحيد هو الرد التاريخي على ضمان وجودها واستمرارها. لبنان في هذا المعنى الكبير يمثل صورة مصغرة عن واقع أوسع، لذلك لابد من أن يكون موعد انتخاب الرئيس نقطة وصل بين القوى وإلا فإن القطع سيؤدي إلى كارثة تدفع ثمنها الأقليات في الدرجة الأولى.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1871 - السبت 20 أكتوبر 2007م الموافق 08 شوال 1428هـ