في الوقت الذي تبلغ القوى العاملة في مجال الزراعة أقل من 1 في المئة في الولايات المتحدة الأميركية (أنظر تقرير التنمية البشرية لعام 2006)، تصل هذه النسبة ربما إلى أكثر من 80 في المئة في بعض البلدان مثل باكستان، ولا تشكل الزراعة سوى نسبة ضئيلة من إجمالي الدخل المحلي الأميركي، غير أنه يخطئ بعض الاقتصاديين والمثقفين لدينا عندما يعتبر النسبة المنخفضة لما تشكله الزراعة في الدول المتقدمة الرأسمالية، كالولايات المتحدة، دليلا على عدم أهميتها في مجال التنمية والتقدم الاقتصادي، ومن ثم يتم إهمالها كما حدث سابقا إذ تم الاتجاه في بعض البلدان الزراعية، نحو التصنيع الذي اعتبره بعض الاقتصاديين سابقا هو التنمية ذاتها، فخسرت البلد الزارعة وأصبحت مستوردة للمواد الغذائية بعد أن كانت مصدّرة، ولم تصبح دولة صناعية. إن بعض هؤلاء يغفل عن أمر مهم جدا، وهو أن هذه النسبة الضئيلة التي تشكلها الزراعة، توّفر ما يحتاجه المجتمع الأميركي من الغذاء، وهذا هو المهم لدى الساسة هناك. ويتم تصدير الكثير من المنتجات الغذائية إلى الخارج، وخصوصا للدول العربية، بل طالما هدد بعض السياسيين الأميركان بتجويع الدول العربية التي تعترض سياستهم، «ولقد كان وزير خارجية أميركا السابق هنري كيسنجرقد هدد علنا خلال الحظر النفطي العربي العام 1973 (حرب تشرين) بقدرة الغرب على استعمال سلاح التجويع ضد الأمة العربية»( د. عماد علو، صحيفة «المدى»، 25 أغسطس/آب)، « أولم يصرح رئيس الولايات المتحدة الأميركية جيمي كارتر بأنّ أيـة دولة تستعمل سلاح النفط يمنع عنها الغذاء؟» (عادل خليفة خليفة: اقتصاديات الدول العربية وتحديات التنمية، ص91). ومع امتلاك الدول الخليجية للنفط والمدخول الكبير من المال، إلا أننا نتذكّر جيدا مدى القلق الذي عاشه أهل الخليج أثناء ما يسمى بحرب تحرير الكويت سنة 1990، وخصوصا هنا في البحرين، حيث دب الذعر في القلوب، وأخذ الناس في تخزين المواد الغذائية مخافة أن تتوقف حركة السفن من وإلى الجزيرة، نتيجة الحرب.
تدني أسعار المواد الغذائية من عوامل استقرار البلد، وبعدها عن الاضطرابات الداخلية التي تتفجر بين فينة وأخرى في الدول النامية، حين ترفع الدولة الدعم عن السلع الرئيسية أو بعض الخدمات، فترتفع الأسعار. هذا يعني أن الأمن الغذائي وتوفير الحاجات الحيوية بأسعار في متناول يد عموم الناس، من أهم ما يدعم الاستقرار الداخلي الذي يعتبر ركيزة أساسية ومقدمة ضرورية لتحقيق تنمية حقيقة مستدامة. من أجل ذلك، تقوم الدول الرأسمالية المتقدمة بتقديم دعم سخي جدا لمزارعيها من أجل مزاحمة المستورد من منتجات الدول النامية، التي تعتمد بنسبة كبيرة جدا في اقتصادياتها على الزراعة، وذلك حتى يبقى المزارع الغربي متشبثا بمزرعته، فتضمن بذلك توفير الغذاء للشعب بأسعار لا تكون رهينة للمنتجين من خارج البلد.
وإذا كانت البحرين قد تبنت اقتصاد السوق الحر، فما لم تعطِ الدولة أهمية لهذا الجانب من توفير الحاجات الحيوية من غذاء وخدمات، فإن المستقبل لن يكون مبشرا بالخير. وهذا يعود لكون اقتصاد السوق الحر، ينهي المنافسة بين أكثرية صغار الحرفيين والمنتجين لصالح الكبار، وبعد مدّة من الزمن، تكون السوق أقرب للاحتكار منها إلى المنافسة، ما يحدث تفاوتا فاحشا في الدخل، والاستحواذ على الثروات لدى ثلة قليلة من الشعب، أكثر من التفاوت الفاحش الحالي. هذا التفاوت يقود لرواج سوق وسائل الترف واللهو والكماليات وألعاب الكبار، وارتفاع الطلب عليها، فيؤدي ذلك لضعف إنتاج أو استيراد السلع والخدمات الحيوية لصالح إنتاج وجلب تلك السلع الترفية ذات المدخول الهائل والجهد القليل، مقارنة مع الجهد المبذول والمردود فيما يتعلق بتوفير السلع الحيوية وخصوصا الغذاء.
وفي الأحكام الشرعية الإسلامية الثابتة، ما يشير لأهمية سعي الدولة لتلافي مثل هذه الحالة، والسعي لإشباع الحاجات الضرورية لأفراد المجتمع، ففي الوقت الذي ترفع الشريعة الضريبة على المنتجات غير الضرورية، تخفضها على المنتجات الحيوية، لحد يمكن الزعم أنها ضريبة تنازلية وليست تصاعدية. ومن الأمثلة في هذا الشأن، أنه مجرد استخراج لؤلؤ بقية دينار ذهبي، يستوجب إخراج 20في المئة ضريبة (خمس) كما في رأي بعض المذاهب الإسلامية. أما فيما يتعلق بالسلع والمنتجات الحيوية، كالأغنام مثلا، فإن الضريبة تنازلية، فأول 40 رأس، يجب إخراج زكاة بمقدار رأس واحد من الأغنام، وتتنازل الضريبة كلما زاد الإنتاج، حتى تصل إلى شاة واحدة فقط في كل مئة حين يصل مجموع الغنم إلى 400 فأكثر. وتوجد شروط أخرى، تدلل على تشجيع الإنتاج الحيوي بتخفيض الضريبة والنصاب عليه، وأن يمر عليه حول. مثل هذه الأحكام الثابتة، تنير الطريق للدولة من أجل إصدار تشريعات أخرى متحركة تحقق الهدف نفسه من وراء هذه الأحكام، وهو ضمان إشباع الحاجات الحيوية لأفراد المجتمع.
وإذا كان الأمل في توفير سلع من الإنتاج المحلي، تسهم بقوة في تحقيق شيء من الأمن الغذائي، قد انتهى منذ أمد بعيد، نتيجة السياسات الحكومية الاقتصادية الماضية، خصوصا بعد تحويل الأراضي الزراعية لمبان، وعدم استثمار ما يزيد عن 60في المئة من الأراضي ما زالت خالية، فإن الدولة مسئولة عن اتخاذ خطوات تشجع زيادة العرض للمواد الغذائية والحيوية الأخرى، وجعل أسعارها في متناول اليد، كفرض ضريبة عالية على السلع الكمالية محل طلب القلة من الطبقة الثرية جدا من المجتمع، وتسخير هذا الدخل لمزيد من الدعم على الأغذية بمختلف أنواعها بدلا من اقتصارها حاليا على اللحم والدجاج والطحين. بجانب ذلك، فإن تفعيل ما تعطّل من مواد دستورية يساهم في الحل، بدلا من القضاء على ما تبقى من الزراعة، كالمادة (9) بند (ز) ونصها «تتخذ الدولة التدابير اللازمة من أجل تحقيق استغلال الأراضي الصالحة للزراعة بصورة مثمرة، وتعمل على رفع مستوى الفلاح، ويحدد القانون وسائل مساعدة صغار المزارعين وتمليكهم الأراضي»، أما في الوقت الحاضر، فلا مزارعين ولا تمليك أراض زراعية، وهذه المادة منسية منذ أمد بعيد. ومن دون السعي الجاد في هذا المضمار، فقد يعود الارتفاع الكبير في أسعار السلع الغذائية، ما قد يقود للإخلال بالوضع ويخرج الناس عن قرارهم حين لا يكون لديهم خيارا، خصوصا وأن الأكثرية تصرف جلّ مدخولها على الغذاء وليس السلع الترفيهية والكمالية التي يمكن الصبرعليها، أو التقليل منها بقدر قلة الراتب وتدني الدخل.
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1867 - الثلثاء 16 أكتوبر 2007م الموافق 04 شوال 1428هـ