قيل إن المغيرة بن شعبة عندما ولي الكوفة يوما سار إلى دار هند بنت النعمان وهي فيها عمياء فاستأذن عليها، فقالت: من أنت؟
قال: المغيرة بن شعبة الثقفي.
قالت: وما حاجتك؟
قال: جئتك خاطبا.
قالت: إنك لم تأتني لجمال أو مال، ولكنك أردت أن تتشرف في محافل العرب فتقول: تزوجت بنت النعمان بن المنذر، وإلا فأي خير في اجتماع عمياء وأعور؟
جواب هند على المغيرة أكبر من أن يكون مجرد رد بديهي على سؤال طارئ، ذلك أن هذا الجواب المتعقل يحمل بين جنباته إشارات واضحة لتداعيات وأعراض أحد الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي تهتك القيم الإنسانية في المجتمع، وتبعثر الجهود، وتضيع الحقوق الأصيلة، وتمعن في التلاعب بالمشاعر والعواطف المكنونة في سبيل الوصول إلى مصالح آنية بطرق لا تمت إلى المهنية بصلة.
لجأت الكثير من الدول الاستعمارية إلى عقد تحالفات منزهة عن مواثيق الشرف، واضطرتها هذه التحالفات إلى مصافحة أكثر الدول عدائية بالنسبة إليها، حتى لخص منظومة تلك الأفكار وحصيلتها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قائلا: «ليس لنا أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، وإنما لنا مصالح دائمة». بمعنى أن من سيقدم المصلحة لبريطانيا سيكون صديقها، وعلى العكس سيكون عدو بريطانيا من لا يقدم لها المصلحة المطلوبة، ومن هنا يمكن أن تتزاوج المصالح من السياسات التي تسير الدول العظمى حتى تصل بالتوارث إلى جميع مرافق الحياة التي تعتنق المعتقدات والأفكار ذاتها، بغض النظر عما يمكن أن تسببه هذه الرؤية المادية البحتة من تمزق وتدمير لكيانات المجتمع، وربما كانت الإدارات التي تتولى إعداد مناهج الطلبة هي الأكثر أهمية من ناحية إعطائها أولوية الحماية من هكذا أخطار قاتلة، فمثلا عندما تجمع إدارة المناهج الخاصة بالتربية الأسرية بين أعور وأعمى فأي نتاج متخبط نتوقع، وإلى أي الدهاليز المظلمة يمكن أن نتوه، جراء تعاطفنا غير المنطقي مع الأقل كفاءة وتغاضينا عن أخطائه المستمرة، وانصياعنا الساذج لاستبدال منفعة لا نملكها بأخرى هي من حق الغير، بما يدلي الحبال لتسلق المتسلقين وتملق المتملقين، وتكون بذلك المقاعد الإدارية في هذه الإدارات مسيرة بقوانين التوارث الأسرية، وأنظمة حلقات المعارف المغلقة، وقريبة إلى حد كبير إلى من مضمون وعد «بلفور» المشئوم الذي يوصف في أجمل حالاته بأنه «هدية من لا يملك لمن لا يستحق»؟!
سنحت لي الفرصة منذ أيام أن أطلع على بعض مناهج التربية الأسرية التي تدرس في إحدى الدول الخليجية القريبة، وفي الحقيقة بهرت بما رأيت، وكم تمنيت لو يطلع الاختصاصيون القائمون على هذه المناهج لدينا على ما يدرس في مدارس الدول الخليجية بدلا من التمشدق بعبارات لا تغني ولا تسمن من جوع من قبيل «نحن لدينا خبرة تفوقهم... عدة دول تتمنى أن تصل إلى ما توصلنا إليه... كتبنا مضرب للأمثال».
الخبرة على «عيني وراسي»، ولكن كما يقول الأخوة المصريون «الحلو ما يكملش»، فلابد للخبرة أن تتمتع بعنصر التجديد المستمر والاطلاع الواسع، فهذا هو التزاوج المصلحي المنشود الذي يمكن أن يثمر، فنحن بحق نحتاج إلى انقلاب إصلاحي في مثل الإدارة... انقلاب يسمح بتجديد الدماء ويلطف الأجواء الخانقة، بما يعطي المجال للإبداع والابتكار والتجديد، بعيدا عن المجاملات، فيستبعد من لا ينتج أو من كان أداؤه أقل من المتوقع، ويحل مكانه الأكفأ بمعايير واضحة للجميع، حتى لا نسمح لأحد أن يقول إن فلان أو فلانة احتلت أو اقتحمت مقعدا لا تستحقه، بعد سنتين أو ثلاث من التشبه بالمدرسين.
كنت أعتقد أن تقرير الأداء السنوي للموظف التابع لديوان الخدمة المدنية هو الحافز المتجدد للعطاء الأفضل، إلا إذا انعكست المقاييس، إذ يصبح هذا التقرير من أكبر البلايا التي تحط من إنتاجية الموظف، إذ يتأثر بمزاجية رؤساء العمل من جهة، وعمر الموظف من جهة أخرى، حتى تلتصق الدرجة شبه النهائية في تقارير الموظف «المعمر»، ولو كان لا يقوم بدور أكثر من دور «الفزاعة» في الحقل التعليمي، في حين يحرم من تلك الدرجات المجتهدون لصغر سنهم، وهذا مؤشر خطر استفاد منه «غير المنتجين» الذين لا إنتاج لهم سوى التفاخر بكبر العمر وسنوات العمل، بغض النظر عن الكم المعرفي الهزيل لهذه السنوات العجاف، التي لم يستفيدوا منها في تحسين أدبيات الحوار أو طرق التواصل مع الجهات التي تقدم الإسناد والإرشاد بطريقة حضارية عبر القنوات الصحيحة التي تمثلها إدارات العلاقات العامة، كما جرى العرف في الوزارات والمؤسسات المرموقة، وطبعا ما كان لذلك أن يكون لولا أن اجتمع الأعور والعمياء في سفينة ضلت الطريق في لجاج بحر هائج.
إقرأ أيضا لـ "ميثم العرادي"العدد 1867 - الثلثاء 16 أكتوبر 2007م الموافق 04 شوال 1428هـ