فقراء من عامة الشعب، حشاشون ومساطيل ظرفاء، أولاد بلد وأطفال «عفاريت»، موظفون خبثاء ومديرون مرتشون، لصوص مفسدون ومواطنون بلهاء. عالم كامل يعكس في صور كاريكاتيرية رحلة حياة صاغها برهافة حس فريدة، رسام الكاريكاتير أحمد حجازي، على مدى أكثر من خمسين عاما قبل أن ينسحب في هدوء إلى مسقط رأسه في إحدى القرى، تاركا خلفه آلاف من النكات واللوحات الكاريكاتيرية بالغة القسوة والحنان في آن واحد، يضمها الآن أرشيف الصحافة المصرية والعربية.
ولد الفنان احمد إبراهيم حجازي في مدينة الإسكندرية في العام 1936 لأب ريفي يعمل سائقا في هيئة السكك الحديد، وعاش بداياته الأولى في مدينة طنطا، فتفتح وعيه على الحياة من خلال والده الذي يقول عنه في محبة خالصة «كان صامتا مثلي، لكنه كان أحيانا ما يحدثني عن الأوضاع في عمله، وكيف أنهم عاقبوه ذات يوم لأنه تأخر عن دخول المحطة بقطاره دقيقتين، على رغم أنه اخبرهم بضرورة إصلاح «مكابح» القطار فإنهم لم يلتفتوا إلى طلبه»، ويضيف: «في فترة الصيف كان أبى يصحبني معه في القطار إلى محافظات شتى، فرأيت مصر كلها عبر نافذة القطار، وعندما التحقت بالمدرسة، كنت اشعر عندما يدعوني بعض زملائي الأغنياء إلى بيوتهم، وأرى الفخامة، بأن هناك شيئا غير مضبوط في الدنيا، ولم أكن افهم أبدا وقتها لماذا نحن فقراء جدا إلى هذا الحد».
وتلقى حجازي في مدرسة الأحمدية الثانوية بطنطا تعليمه الثانوي.. يقول حجازي «كنت أيامها متحمسا جدا، وأرسم رسوما تعبيرية، ولم يكن في دائرة اهتمامي الرسوم الكاريكاتيرية»، لكنه وبعد أن أنهى تعليمه الثانوي قرر أن يسافر إلى القاهرة للالتحاق بكلية الفنون الجميلة.
ويحكي حجازي عن تلك المرحلة في الكتاب الوحيد الذي صدر عنه لمحمد بغدادي ويتضمن عددا من رسومه التي تمثل مختلف مراحله العمرية قائلا: «وجدت المسألة مش مضبوطة، فقررت أن اشتغل فأخبرت صديقي اسحق قلادة بأنني سأستقل القطار إلى القاهرة، فأصر على أن يأتي معي على رغم أن أسرته كانت تستطيع أن تصرف عليه ليكمل تعليمه»، ويقول بغدادي الذي زامل حجازي لسنوات طويلة في مؤسسة روز اليوسف إنه «ترك خلفه رسالة قصيرة جدا لأسرته يقول فيها إنه «لا يستطيع أن يستمر عبئا على الأسرة ويريد أن يتحمل مسئولية نفسه».
كانت القاهرة فى ذلك الوقت - بدايات العام 1954- تمر بتغييرات شتى إثر قيام ثورة يوليو/ تموز، وكان حجازي قد شد رحاله إليها حاملا أحلامه الصغيرة، ليبدأ رحلته مع الرسم، وليتنقل بين عدد من المجلات حتى رشحه أحمد بهاء الدين للعمل معه فى مؤسسة «روزاليوسف»، وفيها التقى بعدد من كبار الرسامين مثل «صلاح جاهين وجورج ورجائي» لتبدأ رحلة حجازي مع الصحافة المصرية التي صار بعد فترة قصيرة واحدا من ابرز رساميها، بعد سلسلة أعماله في مجلة الأطفال «سمير» عبر مسلسل الرسوم «تنابلة السلطان» والذي تميزت شخصياته بروح كاريكاتيرية فكاهية عالية، لأطفال ضاحكين دائما.
لكنه ومنذ التحاقه بالعمل رساما للكاريكاتير فى «روزاليوسف» في العام 1956، لم يتوقف عن الاشتباك مع الكثير من القضايا الحياتية للإنسان العربي، بسخرية لاذعة لا تخلو من عمق فلسفي كبير، وتواضع إذ ظل حجازي صامتا في تواضع يليق بالعظماء حتى أنه كان دائما ما يرد في أدب جم لمن يناديه أو يكتب عنه مستهلا ذلك بلقب «الكبير» أنه عمل بالكاريكاتير مصادفة، وأنه لم يكن يتوقع أن «تلقى رسوماته على الورق، كل هذا الإعجاب غير المبرر» مشيرا وابتسامة رقيقة على شفتيه إلى أنه «كان يعد نفسه ليصبح شاعرا أو كاتبا».
ويقول حجازي إنه لم يكن يتوقع مطلقا، أن كائناته الطفولية هذه ستصنع منه ذات يوم، نجما في عالم الفن، على رغم ما كان يلقى من اهتمام مدرس الرسم برسومه التي كانت تزين جدران الفصل بمدرسته الثانوية بمدينة طنطا، مشيرا إلى مدرس الرسم الذي كان يتعهده برعايته في تلك المرحلة وما كان يفعله مرارا عندما يستدعي ناظر المدرسة أو بعض المدرسين إلى فصله الدراسي لمشاهدة رسومه بفرحة وانبهار.
كانت رسوم حجازي في ذلك الوقت وخصوصا تلك التي كان يرسمها فى المدرسة، تأخذ الطابع الأكاديمي، لكنه حينما كان يرجع إلى البيت، كان يرسم بحرية وطلاقة، وبشكل مختلف، إذ تنساب خطوطه على الورق من دون رقيب أو حسيب رغبة منه في أن يرسم ما يريد، ومن دون أن يعي أهمية ما يرسم، ولم يعرف أن ما يرسمه نوع من الفن إلا عندما طالع مجلة «روزاليوسف» ذات صباح، ورأى رسوم «عبدالسميع» التي كانت تتصدر غلافها بالأحمر والأسود، وتملأ بعض الصفحات الداخلية، تهاجم الملك فاروق في أواخر حكمه، وتتصدى للاستعمار البريطاني وتحارب الرجعية، ويقول إن تلك الرسوم فجرت بداخله، نوعا من الفوران والاتزان الذي جعله لأول مرة يشعر بقيمة ما أنجزه من رسوم في هذه السن المبكر.
كان حجازي منذ طفولته مولعا بالقراءة، فكان يقرأ كل ما يقع تحت يديه من دكان «عم إبراهيم» بشارع البحر بطنطا، يشتري منه الكتاب بقرش، أو يستعيره ويسرع في قراءته وتبديله بكتاب آخر، ويقول عن تلك الفترة إنه قرأ كتبا لم يكن يدرك معناها من الشرق والغرب، في التراث أو في الأدب المعاصر، أوفي التاريخ والفلسفة، وشتى ألوان المعرفة، لكنه لم يكن يعرف معنى ما يقرأ، غير أن حروف المطبعة تركت بداخله شيئا مختلفا ومؤثرا، اكتشف بعضه عندما عاود قراءة هذه الكتب مرة أخرى بعد هجرته إلى القاهرة، وخصوصا أشعار بيرم التونسي الذي يقول عنه «وجدت في أشعاره صورا هزتني، لأنني شعرت بأن هناك من يفهم ظروف حينا الفقير ويعبر عنها، ومن فرط حبي في أشعار بيرم كنت اقرأها كل يوم».
عمل حجازي أول ما عمل، رساما للكاريكاتير بمجلة «روزاليوسف» منذ العام 1956، وكان شديد الاعتزاز بهذا العمل، ويقول بتواضع الفنان إنه «تعلم الفن من كل من سبقوه وكل من جاءوا بعده»، وخصوصا صلاح جاهين الذي كان حسبما يرى «صاحب تحول أساسي في خط الكاريكاتير المصري، الذي جعل خطوطه أكثر تعبيرا وعمقا»، وعندما ترأس الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين مجلس إدارة دار «الهلال» طلب من حجازي العمل معه في مجلة «سمير» وكانت مجلات الأطفال - وقتئذ - تعتمد بشكل أساسي على الرسوم الأجنبية، وكل ما كانوا يفعلونه هو ترجمة النص من لغته الأصيلة للغة العربية، وتغيير أسماء أبطال الحكايات، من جاك إلى خليل ومن ميري إلى زينب، على رغم أن أجواء الرسوم كانت أجنبية والنصوص عربية، وكانت فكرة حجازي من البداية أن يكون المواطن على وعي ودراية بما يحدث حوله في المجتمع، والطفل مواطن صغير يتصور أنه يعرف كل شيء بما في ذلك السياسة.
ويتذكر حجازي عندما سأل أستاذه بتلقائية شديدة وكان لايزال طالبا في الثانوية العامة قائلا: هل يتعلم الإنجليز العربية مثلما نتعلم نحن الإنجليزية؟ ويقول إن أستاذه رد عليه باستياء شديد: «حايتعلموا عربي ليه يا فالح؟»، ويقول: «شعرت وقتها بالغيظ، وظل هذا الرد يراودني، وكلما تذكرته أشعر بحنق ومهانة، الأمر الذي دفعني إلى رسم أول مسلسل مصور للأطفال بفكر مصري ليس له علاقة بالنقل من الخواجات، بعنوان «تنابلة الصبيان»، ويضيف: كنت أرسمه نوعا من المداعبة مع الطفل المصري، الذي تعاملت معه ومن خلاله كصديق و«مواطن صغير» له وجهة نظر.
وتميزت رسوم حجازي طوال مشواره الفني بالانتقادات اللاذعة التي كان يوجهها إلى الواقع وعلى نحو مخالف للفكر التقليدي السائد في رسوم الكاريكاتير في ذلك الوقت، والذي كان يقوم على المبالغة الشديدة لإضحاك الناس، واعتمد في مدرسته الجديدة التى أسسها وسار على دربها آخرون على فكرة الواقع المعكوس، التي كانت تنطلق من رصد الواقع كما هو من دون تدخل، استنادا على ما ينطوي عليه هذا الواقع من مفارقات مضحكة للغاية.
غير أن رسوم حجازي شهدت تحولا لافتا عقب نكسة يونيو/حزيران العام 1967 فخيم عليها الاكتئاب والإحباط والعبث، وهى الحال التي سرعان ما تصاعدت في أثناء فترة الانفتاح الاقتصادي التي أقرها السادات بعد زيارته المشؤمة للقدس، وما صاحب تلك الفترة من تغييرات في منظومة القيم، فظهرت شخصيات حجازي مصابة بالفصام ومزدحمة بالمتناقضات ما بين القيم النبيلة والفساد وما بين العدو الذي أصبح صديقا، لتطرح أسئلة غاية في الأهمية عن الانفتاح والانغلاق، والشرف والعهر.
وفي تلك الفترة استطاع حجازي أن يعبر برسومه عن القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية نفسها التي مرت بها مصر والوطن العربي منحازا دائما إلى الطبقات الشعبية برؤية فلسفية متفردة، تميزت خلالها رسومه بشفافية فنان قادر على اقتناص الأفكار الجديدة الطازجة والمدهشة من مفارقات الواقع، وعن تلك الفترة يقول حجازي «لقد تغيرت حسبة الكاريكاتير، ولم تعد هناك رموز تعبر عن مفردات اجتماعية واضحة، بعد أن تغير الواقع الاجتماعي... زمان كانت «الطبلية، ومصباح الكيروسين يعبران عن الفقر، أما الان فتجد الشريحة الاجتماعية نفسها تملك جهاز فيديو وأبناءها يشربون الـ «سفن أب»، وعندما ترسم هذه الصورة كيف تقول إنهم فقراء؟... بينما هم فقراء فعلا بشكل ما».
غير أنه ومنذ سنوات قاربت العشر، وبينما هو في قمة تألقه ونضجه الفني، انسحب حجازي في هدوء، وانزوى في شقته الكائنة بضاحية المنيل الهادئة، مكتئبا ومحبطا ومكتفيا بأحزانه، التي تنوء عن حملها الجبال، فلم يرفع سماعة هاتفه ليرد على سائل أو صديق - إلا نادرا - وانقطع عن الرسم فلم يرسل رسومه إلى مجلة أو جريدة إلا بين الحين والآخر عبر صحيفة «العربي» الناصرية، أو مجلة الأطفال «علاء الدين»، مفاجئا عشاق خطوطه الساحرة ونكاته الموجعة، برسمة صغيرة هنا أو هناك، قبل أن يتخذ قراره الأخير بالعودة من جديد إلى مدينته طنطا، تاركا العاصمة بصخبها وجدلها العقيم، متوحدا بذكريات سني عمره الأولى، ودفء الملايين من محبيه
توفى اليوم 21 أكتوبر 2011
وفي صباح يوم الجمعة 21 أكتوبر 2011 ، الموافق 23 ذو القعدة 1432 ، توفى اليوم هذا الفنان الكبير حجازي في شقته بشارع البحر بطنطا عاصمة محافظة الغربية بدلتا مصر عن عمر 75 عاما.. ودفن معه في نفس اليوم الكاتب والصحفي المصري الكبير أنيس منصور