في البدء كان الإنسان بلا ذاكرة، كان كائنا يتمتع بقوة داخلية مفرطة، ما كان يعرف معنى لتأنيب الضمير والشعور بالذنب، ولا هو أساسا بقادر على الصفح و»ذلك لسبب واحد هو كونه ينسى» (جينالوجيا الأخلاق، ص32). آنذاك كان النسيان قوة حيوية وملكة تقوم بوظيفة حيوية هي «إقفال أبواب الوعي ونوافذه من حين لآخر». إلا أن مأساة هذا الكائن، الحيوان النسيء كما يطلق عليه نيتشه، ابتدأت حين «ابتكر لنفسه ملكة معاكسة هي الذاكرة» (ص49). ومنذ أن ابتكر الإنسان هذه الذاكرة ابتدأت معها سيرة الابتلاء بالتاريخ، والذي يعبّر عن نفسه في صورة التواطؤ أو الاتفاق السري بين الماضي والحاضر بحيث يصبح الحاضر مرهونا بالماضي ومدينا له بصورة لا فكاك له منها، وبتعبير والتر بنيامين فإن كل جيل قد وُهِب «قوة خلاصية ضعيفة، قوة يطالب الماضي بحقه فيها. وهذه المطالبة لا يمكن تسويتها بثمن بخسٍ» (مقالات مختارة، ص196)، إذ قد يكون رأس الحاضر نفسه هو الثمن المطلوب في هذه التسوية!
والحق أن كل المجتمعات مبتلاة بالتاريخ، بل إن استثارة هذا التاريخ هي أكثر الاستراتيجيات شيوعا في تأويلات هذه المجتمعات. وبحسب إدوارد سعيد فإن الذي يبثّ الحياة في هذه الاستراتيجيات «ليس الخلاف على ما حدث في الماضي، وما كانه الماضي فحسب، بل هو أيضا اللايقين مما إذا كان الماضي ماضيا فعلا، منتهيا، ومختتما، أم كان ما يزال مستمرا لكن في أشكال قد تكون مختلفة» (الثقافة والإمبريالية، ص75).
و»مجتمع» البحرين ليس بِدعا من هذه المجتمعات. ومن دلائل ابتلاء البحرين بالتاريخ أن الماضي حاضر بقوة في اهتمامات معظم المنخرطين في النقاش العمومي داخل الفضاء العام. كما أن أسئلة «اللايقين» التي يتحدث عنها إدوارد سعيد مطروحة بقوة في هذا النقاش. فهل أصبح الماضي ماضيا فعلا؟ وهل هو بمثابة كتاب ليجرى إقفاله وطي صفحاته إلى الأبد؟ ثم ما المقصود حقيقة بطي صفحات الماضي؟ هل تطوى هذه الصفحات بقرار سياسي؟ وهل يمكن للبشر أن يحجروا على الماضي ويقيموا حاجزا بينه وبين حاضرهم؟
يذكر إميل نخلة أن البحرين لا تختلف عن البلدان حديثة الاستقلال في حقيقة «أن التاريخ في هذه البلدان يعتبر محرّما» (البحرين: التطور السياسي في مجتمع متحدّث، ص33). هذه ملاحظة دوّنها نخلة في أوائل السبعينات، إلا أن هذا التحريم لم يمنع من انتعاش سياسات التذكر واستعمال الذاكرة بقوة تشبه «عودة المكبوت»، وذلك ابتداء من السبعينات. وإذا كنا نسعى إلى إعادة تركيب سيرة التذكر وسياقاته في البحرين، فإننا سنكتشف أن هذه السيرة تنتظم وفق النسق الجدلي الذي يبدأ بالتذكر، ثم النسيان، ثم انتعاش الذاكرة من جديد. وهي بهذه السيرورة تتطابق مع قانون الأجيال الذي صاغه في العام 1937 ماركوس لي هانسن، أحد مؤرخي الهجرة، وأسماه «مبدأ اهتمامات الجيل الثالث». وبحسب هانسن فإن «الجيل الأول من المهاجرين المثقلين بهموم مادية يبدون اهتماما قليلا بثقافة العالم القديم الذي جاءوا منه»، وفي المقابل يتبنى الأبناء والبنات سياسات النسيان. أما الجيل الذي يكون مدفوعا برغبة قوية لتذكر جذوره وتاريخه بفخار فهو الجيل الثالث، وهذا الجيل هو الذي «يغذّي بعث الهوية الثقافية» من جديد (نهاية اليوتوبيا، ص65).
تبدأ سيرة التذكر في القرن العشرين بكتاب محمد علي آل عصفور (الدرازي) «عيون المحاسن ومحاسن أعلام العلماء والشعراء» الذي انتهى من تصنيفه في 12 شعبان 1319هـ/1901م. ثم يأتي كتاب محمد بن خليفة النبهاني والذي انتهى من تبييضه في العام 1913، وأسماه في بادئ الأمر بـ «النبذة اللطيفة في الحكام من آل خليفة» ثم عاد ليوسع الكتاب ليشمل تاريخ الجزيرة العربية، فاضطره ذلك إلى تسمية الكتاب بـ «التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية». ويمثّل كتاب النبهاني النقيض المباشر لكتاب محمد علي آل عصفور، فإذا كان كتاب هذا الأخير مكرّسا أساسا لتراجم العلماء، فإنه جاء تاريخا علمائيا شيعيا محضا دون ذكر لأي شكل من أشكال الوجود «العلمائي» السني في البحرين. وفي مقابل هذا الكتاب كان كتاب النبهاني مكرّسا لتاريخ الحكام والأمراء، إلا أنه جاء منحازا ضد «الشيعة» إلى درجة التعصب، وهو لم يتورّع عن الزعم بأن غالب أهل البحرين «من العرب الأصليين وهم يتمذهبون» بمذاهب أهل السنة الأربعة (التحفة النبهانية، ص40)، هكذا دونما ذكر للشيعة وكأنهم، من منظوره، ليسوا من «غالب أهل البحرين» أو ليسوا من «العرب الأصليين»! إلا أنه حين يأتي على ذكر التعصب المذهبي يستدرك على ما قرره سابقا، ويتذكّر ما تعمد نسيانه فيقع في التعارض حين يجزم بأن «غالب سكان البحرين شيعة شديد التعصب على إخوانهم السنيين»! (ص85). والغريب هو كيف تأتى لهذا الرجل أن يصدر هكذا حكما على الشيعة وهو لم يخالط الشيعة أصلا، بل إنه لم يبق في البحرين إبان إعداد مسودة كتابه سوى شهرين وحفنة من الأيام قضاها ضيفا على «الأمراء» وممتزجا بـ «الحكام» كما يقول؟!
لم يجر تجاوز هذين الكتابين النقيضين إلا مع ناصر الخيري (ت 1925) الذي صنّف كتابه «قلائد النحرين في تاريخ البحرين» في أوائل العشرينات من القرن العشرين، ثم لاحقا مع محمد علي التاجر (ت 1967) الذي انتهى من تأليف كتابه «عقد اللآل في تاريخ أوال» في أوائل الأربعينات. وفي هذه الفترة كان تشارلز بلغريف، مستشار الحكومة، منهمكا كذلك في تأليف كتاب عن «تاريخ البحرين».
لقد توقف فعل التذكر بعد كتاب التاجر، وبدل التذكر أقفل الوعي أبوابه ونوافذه في وجه التاريخ ورواسبه المحلية والطائفية على وجه الخصوص، وأسلم نفسه إلى طقوس النسيان. لقد تُرك التاريخ ليتدبّر أموره بنفسه، وراح هذا الجيل ينخرط في الاهتمام بالحاضر المتطلب وأسئلته الملحة والمتقدة. وليس غريبا أن أهم كتاب ظهر في البحرين في منتصف الستينات هو مذكرات عبدالرحمن الباكر «من البحرين إلى المنفى» (1965). وهو كتاب يقوم على النسيان وتجاوز الماضي ورواسبه الطائفية، ولهذا جاء متجذرا بقوة في حاضره، متحررا من هوس التذكّر والتذكير. بل إن عبد الرحمن الباكر حين شرع في كتابة سيرة نضاله ونفيه إلى سانت هيلانة افتتح الكتاب بكلمات تبدد هذا الهوس بالذاكرة والتذكر، فيؤكد على أن كتابه هو صورة صادقة لـ «قصة كفاح الشعب العربي في البحرين»، إلا أن هذه القصة ليست «للعبرة والذكرى» لأن حوادث هذه القصة لم تكن أساسا من أجل تسجيل مواقف للتاريخ. لم يكن موقف الباكر، وأبناء جيله، نابعا من نفور متأصل من التذكر والتذكير، بل هو تعبير عن إحساس حاد بالزمن الراهن المباشر (هنا والآن)، وانعكاس لما كان يتمتع به من عنفوان الأمل في الفعل والإنجاز. وهذا ما جعله قادرا على تجاوز الرواسب التاريخية للانقسام الطائفي، وتأسيس وحدته الوطنية الأولى التي صارت، اليوم، بعيدة المنال حيث الجميع مبتلى بالتاريخ والتذكر والتذكير.
لم يكن خطاب قادة هيئة الاتحاد الوطني (1954-1956) معنيا عناية شديدة بالذاكرة وفعل التذكر، كما لم يكن مكترثا بمكر التاريخ الذي قد يعلن عن نفسه من خلال النسيان وانقراض الذكر وانقطاع الخبر والتنكر للتضحيات. بل كان بعضهم على يقين من أن الشعب سينساهم، بل ربما انقلب ضدهم، ومع هذا لم يفتّ هذا اليقين في عضدهم وعزمهم. أليس هذا هو ما تنبأ به إبراهيم فخرو وأسرّه في السجن إلى عبد الرحمن الباكر، وذلك حين قال: «أنا أعرف شعب البحرين وقد اختبرته في السابق، إنه سينسانا جميعا بل ربما لعنونا وشتمونا وألصقوا بنا أمورا نحن أبرياء منها»؟ لقد أكّد الباكر على صدق هذه النبوءة حين كتب بأن إبراهيم فخرو «والزميل المغفور له إبراهيم بن موسى قضيا تسع سنوات في سجن جدا في البحرين نسيهما شعب البحرين ولم يقدر لهما تضحياتهما». ومع ذلك لم يكن هؤلاء يفسّرون هذا النسيان والتنكر لتضحياتهم على أنه خسارة لا تعوض، أو على أنه جحود يبعث على الإحباط والتراجع، يقول الباكر: «ومع ذلك فإنه لا يفت في عضد المصلحين والمطالبين بإحقاق الحق في هذه الدنيا أن تجحد مجهوداتهم في سبيل رفعة وطنهم».
هذا خطاب متجذر بقوة في طقوس النسيان، لأنه كان معنيا بالحاضر أكثر من التاريخ. والمفارقة في هذه الفترة أن الشيخ إبراهيم المبارك (1908 - 1979) انتهى في أواخر الستينات من تصنيف كتاب موجز في تاريخ البحرين، وأطلق عليه، فيما يبدو، اسم «ماضي البحرين وحاضرها»، إلا أن مكر التاريخ أقوى من أن يستسلم حتى لمقاصد الكتاب وصاحبه، وأكبر دليل على هذا المكر الذي يتسلح به التاريخ هو أن يُنشر الكتاب في العام 2004 بعنوان «حاضر البحرين»!
يذكر الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة أن ما كان يشغله كثيرا في أواخر السبعينات هو أن «المصادر البحرينية التي كتبت عن تاريخ البحرين السياسي لا تتجاوز في عددها أصابع اليد الواحدة» (مجلة الوثيقة، العدد 26، 1994، ص10). وهذه إشارة صائبة، إلا أن تأويلها الصحيح هو أن الجيل الذي نشأ في الأربعينات والخمسينات والستينات قد تبنى «سياسات النسيان»، ولهذا كان قادرا على الانخراط في حاضره من دون عقد ومن دون رواسب تثقل قدرته على الانطلاق والتحرك.
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل لإعادة تركيب السياق التاريخي الذي انتعشت فيه الذاكرة من جديد، ولاستجلاء الدوافع والمدلولات السياسية وراء عودة الذاكرة ابتداء من السبعينات حتى السنوات الأخيرة.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1859 - الإثنين 08 أكتوبر 2007م الموافق 26 رمضان 1428هـ