أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي يوم الأربعاء الماضي قرارا غير مُلزم وبموافقة خمسة وسبعين صوتا ومعارضة ثلاثة وعشرين (فقط) يقضي بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات (مُتفدرلة) سُنّية وشيعية وكردية، وعلى رغم أن الدستور العراقي قد أجاز في مادته الخامسة عشرة بعد المئة بأحقيّة كل محافظة أو أكثر تكوين إقليم فإن الحكومة العراقية قد سارعت إلى رفض القرار على لسان المتحدث باسمها علي الدباغ ربما حفاظا على ما نسجته من علاقات جنينية داخلية وإقليمية رافضة لموضوعة التقسيم ومعترضة على أجندة كثيرة تخص العملية السياسية التي يقودها الائتلاف الشيعي الموحد أو تحالف المعتدلين الذي يضمّ المجلس الأعلى الإسلامي وحزب الدعوة الإسلامية والحزبين الكرديين، أو ربما للحفاظ على صورتها في الداخل والخارج التي اهتزت كثيرا بسبب تحالفها المطلق مع الولايات المتحدة، وكيفية تعاطيها مع ذلك القرار الذي صدر من جهة تشريعية لدولة تبعد عن العراق عشرة آلاف كيلومتر وكأنه الولاية الواحدة والخمسين لها بعد ولاية هاواي !
ومن خلال القراءة المتأنية للقرار المذكور لا يجب أبدا أن يُقرأ من نقطة رفض الرئيس بوش والبيت الأبيض له والذي يدير أموره من خلال موازين تعميرة السلاح وقعقعته على الأرض منذ العام 2003؛ وإنما يُقرأ من الجنبة السياسية التي تُشير إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تعدّ خطة بديلة عن خطة الانسحاب الكُلّي من العراق والذي يحتاج أصلا إلى ثلاث سنوات، تكون موازية ومتّسقة مع إعادة انتشار الجيش الأميركي في ثكنات رئيسية في الجنوب والوسط والشمال أي ضمن الأقاليم الثلاثة التي ستفرزها فيدرالية العراق، ضمن قواعد مُحصّنة تكون مركزا عسكريا تيلوروكراتيا في المنطقة، بل إنها قد تُوازي القواعد العسكرية الأربعة عشر في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى من حيث الاستعدادات في العدة والعتاد، وعلى رغم أن الولايات المتحدة تعيش فشلا مُدويا في جعل العراق مستقرا إلاّ أنها لا تنظر إليه على أنه فشل استراتيجي، بل تراه مؤقتا وقابلا لأن يتحول إلى منحى إيجابي، وأنها لم تستنفد الوسائل والإمكانات كافة التي قد تُعيد البوصلة إليها من جديد وتحوله إلى نصر استراتيجي أو على أقل تقدير نصر مؤقت يُمكن البناء عليه، وهي وفي سبيل ذلك لن تتردد في الاستعاضة عن السياسيين العراقيين الذين جاءوا معها « فاتحين» بغيرهم من التلوينات والقوى العراقية الأخرى التي قد تقبل بأسقف جديدة في العملية السياسية ولها من العلاقات المغايرة في المنطقة وأهمها مع إيران والدول العربية التي تراها واشنطن بأنها معتدلة ما يُشجع واشنطن لأن تتحالف معهم وتدفع بهم نحو السلطة، بل إنها قد تلجأ إلى أعدائها الذين قاتلتهم واحدا تلو الآخر منذ دخولها بغداد « مُحتلّة « في إبريل/نيسان من العام 2003 لإيجاد ذلك النصر الاستراتيجي أو المؤقت، وهو ما يُفسّره غضها الطرف عن تنقلات عزت إبراهيم الدوري بين اليمن والسعودية والأردن، والاجتماعات التي قام إياد علاوي بقيادات بعثية وحضرها مسئولون أميركيون على مستوى عال في السابع من سبتمبر/أيلول الماضي، وعلى رغم أن الخيارات المتاحة للرئيس بوش هي محدودة لكن الأكيد أنها لن تخرج عن أحد أمرين فيما يتعلق بالوضع في العراق، فهي إما أن تعيد السيطرة الكاملة على المحافظات العراقية بشكل مباشر وتقوم بتحييد الاعتراضات الإقليمية والدولية كافة ضد التمرد المسلح الذي قد يكون من جهات أخرى هذه المرة بدأت مورفولوجياتها منذ يوليو/تموز الماضي من دون الاكتراث بالرأي العام الأميركي الذي أثبت بأنه غير قادر على صوغ السياسات الأميركية الخارجية والداخلية، أو أنها تنسحب كما أسلفت إلى قواعد دائمة خارج المدن الكبيرة، بعد تأمين صعود أطراف أكثر قدرة على ضبط الوضع الميداني ومن ضمنها قيادات بعثية سابقة.
اللافت هنا أن الأميركيين استطاعوا ومن خلال شدة التباينات بين الفرقاء في داخل العراق أن يُنتجوا رقما ملكا يحتفظون به لأنفسهم، ويطمع الجميع للوصل به، فالشيعة الذين جاءوا مع الاحتلال يُريدون بتحالفهم مع الأميركيين تكريس وجودهم وتمرير مشروع الفدرلة بإقليم في الجنوب بأسرع ما يُمكن وأيضا لجم غلواء تنظيم «القاعدة» في بلاد الرافدين ضدهم واستباحته لدمائهم، والسُنّة تحالفوا مع الأميركيين للاحتماء بهم ضد الميليشيات الشيعية المتطرفة والفرز الطائفي الذي يسير لغير صالحهم وأيضا الاحتماء من تنظيم «القاعدة» الذي قتل الكثير من السياسيين السُنّة فسعت العشائر العراقية السُنّية في الأنبار لإزاحته عبر الاستقواء بالقوات الأميركية، وأيضا لإيجاد مأمن استراتيجي للكيان الجغرافي الذي قد يتشكّل لهم والمحصور بين سلسلة جبال حمرين غربا كإقليم لكردستان، وبين سامراء إلى الفاو في الجنوب كإقليم شيعي والحفاظ على ما يمكن حفظه من مكتسبات لستة ملايين سُنّي قد يضيعون في الوسط، خصوصا وأن الأحزاب السُنّية فهمت اللعبة السياسية الإقليمية جيدا، وهي أن الدول العربية لم تعد قادرة على التأثير في الشأن العراقي ما دامت هي داخلة أصلا في التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والذي يشبه إلى حد بعيد حلف الهوامش الذي تعاظم نشاطه ضد الحركات القومية واليسارية في الشرق الأوسط بعد حرب السويس عبر تخطّي أنظمة دول الطوق المتشددة والتحالف مع إيران الشاه ومع تركيا وإثيوبيا، لذلك فإنهم سعوا في مشروع التحالف مع الأميركيين وبدرجة أسرع بُعيد إعلان المملكة العربية السعودية أنها سترسل بعثة دبلوماسية إلى بغداد في أغسطس/آب الماضي تمهيدا لافتتاح سفارة سعودية هناك، وربما كان ذلك أفضل الخيارات بالنسبة لهم، أما الأكراد فتحالفهم مع الأميركيين غير خفي، بل إن النفوذ الصهيوني داخل العراق يأتي عبر البوابة الكردية في الشمال، وهم بذلك التحالف يريدون إكمال مشروعهم الوطني وتأسيس إقليم كردستان بصلاحيته الدستورية التي نصّ عليها الدستور العراقي المُقر في 15 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2005، ولم يعد أمامهم سوى تعقيدات العلاقة مع تركيا التي فجرتها أخيرا الرغبة في إيجاد مشروع اتفاق بين بغداد وأنقرة بشأن أحقيّة الأخيرة في ملاحقة المتمردين الأكراد، هذا التداعي السياسي للقوى العراقية المختلفة صوب المشروعات الأميركية في العراق يعني أن واشنطن ستُؤسس لسياسة جديدة تقوم على تمرير مشروعات جزئية ومحاصصات هي في الأصل أهداف طائفية وقومية لبعض الأطراف داخل العراق بغية إيجاد توافق عام على مشروعها الكبير هناك، وإذا ما حصل ذلك فإن مشروع التقسيم سيأتي لا محالة ما دامت معوقاته قد انتهت لصالح مشروعات الأقوام والأمراء والطوائف .
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1851 - الأحد 30 سبتمبر 2007م الموافق 18 رمضان 1428هـ